ماتياس روست... طيار اخترق دفاعات السوفييت برواية السلام

ماتياس روست... طيار اخترق دفاعات السوفييت برواية السلام

28 مايو 2023
ماتياس روست في الساحة الحمراء بعد سنوات من فعلته (بيتر بيشوف/ Getty)
+ الخط -

في مثل هذا اليوم قبل 36 عاماً، هبطت طائرة خفيفة من طراز "سيسنا - 172" قادها الألماني الشاب ماتياس روست البالغ 18 من العمر حينها في الساحة الحمراء وسط موسكو، بعدما قطع بطائرته مسافة أكثر من ألف كيلومتر ضمن أجواء الاتحاد السوفييتي، واخترق كافة نظم الدفاع الجوي التابعة لوزارة الدفاع السوفييتية. في 28 مايو/ أيار 1987 الذي صادف من باب المفارقة عيد حرس الحدود في الاتحاد السوفييتي، أثار هبوط الطائرة اهتمام المشاة في الساحة الحمراء الذين توجهوا إلى الطائرة، وكتموا أنفاسهم للتعرف إلى هوية قائدها. وكشف روست اسمه للناس، وأبلغهم أنه قادم من العاصمة الفنلندية هلسنكي، قبل أن تحضر قوات الأمن إلى المكان، وتعتقله. وباعتبار أن هبوط روست في الساحة الحمراء في عيد حرس الحدود شكل صفعة حقيقية لهيبة الجيش السوفييتي، أخضعت السلطات 34 ضابطاً وجنرالاً في سلاح الجو لتحقيقات، قبل أن تغيّر قيادة وزارة الدفاع السوفييتية. وبرّر روست تصرفه الغريب بآرائه المؤيدة للسلام، وسعيه إلى إقامة جسر جوي خيالي بين الشرق والغرب، وإظهار سعي ألمانيا الغربية للسلام أمام شعوب الاتحاد السوفييتي، وهي رواية لم يصدقها معظم المسؤولين العسكريين السوفييت البارزين الذين اعتبروا ما جرى عملاً دبرته أجهزة استخبارات غربية.  لكن روست أصرّ على نفي وجود صلته بأي أجهزة استخبارات، ووصف نفسه بأنه رجل سلام أراد تحقيق حلم أن يصبح طياراً منذ أن أحضره والده إلى مطار حين كان طفلاً في الخامسة من العمر. 

شكوك عسكرية
لكن رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بليخانوف الاقتصادية في موسكو، أندريه كوشكين، الذي خدم لثلاثة عقود في الجيش السوفييتي والروسي ويحمل رتبة عقيد احتياط، يعتبر أن روست لم يكن في مقدوره تنفيذ تحليق بهذه الدقة من دون أن يتلقى تدريباً مسبقاً على استخدام التلال لتجنب رصده بواسطة وسائل قوات الدفاع الجوي السوفييتية. ويقول لـ"العربي الجديد": "من وجهة النظر الفنية، كان اختراق نظم الدفاع الجوي السوفييتية بواسطة طائرة رياضية أمراً ممكناً، واستخدم روست التلال لخداع وسائل الدفاع الجوي، ما دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الدفاع الجوي السوفييتي ضعيف، وفي مقدمهم الزعيم السوفييتي حينها ميخائيل غورباتشوف، رغم أن الدفاع الجوي السوفييتي كان الأقوى على مستوى العالم ولا يزال".  
ويقلّل من مصداقية زعم الطيار الشاب حينها أنه يحب السلام، فالحادثة لم تكن خطوة نحو السلام، بل صفعة للاتحاد السوفييتي قد تكون دبرتها أجهزة استخبارات غربية، إذ يكشف استخدام روست للتلال بهذه المهارة خضوعه لتدريب سابق، وهو لم يكن سيصل إلى موقع الساحة الحمراء بهذه الدقة من دون إرشادات". 

محطات الرحلة
ويروي روست نفسه أنه أقلع من ألمانيا على متن طائرة مستأجرة في 13 مايو/ أيار 1987، وكان يشك في قدرته على تحقيق خطته، لكن ثقته زادت مع اقترابه من الهدف. وبعدما تزود بوقود في جزر فارو، هبط في أيسلندا، حيث زار الموقع الذي استضاف اللقاء الذي عقده غورباتشوف مع الرئيس الأميركي حينها رونالد ريغان، وكان يفترض أن يحدث خرقاً في مسألة نزع السلاح النووي، لكن ذلك لم يحصل في نهاية المطاف. ويخبر روست أيضاً أن زيارته هذا الموقع ألهمته لمواصلة تحليقه، فهبطت طائرته في النرويج في 22 مايو/ أيار، ثم في هلسنكي حيث اطّلع على خريطة الاتحاد السوفييتي وموسكو بدقة، فواصل طريقه بعدما أبلغ رجال أمن الحدود في فنلندا استعداده للإقلاع في اتجاه العاصمة السويدية استوكهولم ضمن رحلة سياحية. ومن أجل تفادي سلوك مسار خاطئ في طريقه إلى موسكو، استرشد روست ببوصلة ومشاهدته بالعين المجردة بحيرات تحت جناحي طائرته، وخط السكة الحديدية بين مدينة رجيف والعاصمة موسكو.  

الصورة
يقف إلى جانب طائرة "سيسنا - 172" حين كان في الـ18 من العمر (بيتر تيم/ Getty)
يقف إلى جانب طائرة "سيسنا - 172" حين كان في الـ18 من العمر (بيتر تيم/ Getty)

أعجوبة الإفلات
ورغم أن الدوريات المناوبة للدفاع الجوي رصدت طائرة روست فور دخولها الأجواء السوفييتية، لكن أفرادها ظنوا بأنها سرب لطيور مهاجرة أو طائرة سوفييتية خفيفة من طراز "ياك-12" انحرفت عن المسار. وعموماً أفلت روست بأعجوبة مرات من القوات السوفييتية، إذ تعمّد إغلاق كل أجهزة الاتصال بطائرته لتجنب إثارة الشكوك حين انطلقت مقاتلات لاعتراضه قبل أن تتراجع أيضاً بسبب عدم وجود أسلحة مثبتة على طائرته. وحين مر فوق مطار عسكري، ظن عاملو جهاز الرادار والمراقبة أنه طيار سوفييتي يجري تدريبات روتينية. وحين تلقى مناوبون في مقر الدفاع الجوي السوفييتي خبر رصد جسم منتهك للأجواء، تعاملوا مع الأمر بلا مبالاة ولم يبلغوا القيادة بالأمر، وهو ما عزاه خبراء لاحق إلى ما عرف بـ"متلازمة مونيرون"، أي الحذر الذي كانت تبديه قوات الدفاع الجوي السوفييتي بعد واقعة إسقاط طائرة كورية جنوبية من طراز "بوينغ -747" في محيط جزيرة مونيرون أقصى شرق الاتحاد السوفييتي بعدما انتهكت الحدود السوفييتية صدفة في أغسطس/ آب 1983.  
وأسفرت هذه الحادثة عن مقتل 246 راكباً و23 من أفراد الطاقم، ما تسبب في فضيحة دولية كبرى ألحقت ضرراً جسيماً بسمعة الاتحاد السوفييتي. ورغم أن وزارة الدفاع السوفييتية لم تدخل إثر هذه الحادثة تعديلات مهمة على الإرشادات الممنوحة لوحدات الدفاع الجوي، لكن العسكريين قرروا عدم المخاطرة في التعامل مع طائرة روست.  

لا لقاء مع غورباتشوف
وفي الثاني من سبتمبر/ أيلول 1987، مثل روست أمام القضاء السوفييتي الذي وجه إليه اتهامات عدة، بينها انتهاك الحدود الجوية للبلاد، ومخالفة القواعد الدولية للطيران، وحكم بسجنه أربع سنوات، لكنه عاد إلى ألمانيا بعد مرور 14 شهراً فقط، بعدما قدم المستشار الألماني حينها، هلموت كول، طلباً إلى غورباتشوف في هذا الشأن. لكن روست سجن مجدداً في ألمانيا عام 1989 بعدما أدين بطعن ممرضة لم تبادله مشاعر عاطفية في مستشفى. وفي منتصف تسعينات القرن العشرين، شاء القدر أن يتوجه روست إلى روسيا ما بعد السوفييتية، حيث قضى بضع سنوات في موسكو بأمل مقابلة غورباتشوف، لكن ذلك لم يحدث، في حين لم تثنه الصعوبات عن مواصلة محاولاته للمساهمة في تحقيق السلام الدولي، بما في ذلك تسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

المساهمون