الافتتاحية


الفضائل المسيحية(1)
بحسب الإنجيل

+++


للأب متى المسكين

الفضائل(2) عموماً اسم شائع في جميع الأديان؛بل إنه في السلوك الاجتماعي العادي، توجد فضائل يؤمن بها المجتمع ويتطلَّبها ليكون مجتمعاً بشريًّا راقيًا، كالأمانة والصدق والنظام والمحبة.

ولكن الذي يميِّز الفضائل المسيحية عن أية فضائل أخرى هي كونها فضائل روحية، لأنه توجد فضائل جسدية وفضائل روحية، والفضائل الجسدية هي التي يعملها الإنسان:

+ بدوافع جسدية،

+ ووسائل جسدية،

+ وغايات جسدية.

أولاً: الدوافع الجسدية:

فالإنسان قد يمارس الفضائل إلى حد الإتقان والمبالغة، سواء الصوم أو الصلاة أو التواضع أو السجود أو حتى المحبة، بدوافع جسدية: مثل الغيرة والمنافسة وحب الظهور،

أو بدافع المماثلة للآخرين، حتى يكون مثل باقي المجتمع الذي يعيش فيه،

أو تحت عوامل الضغط أو الإرهاب من الوالد أو المدرِّس أو الكاهن أو المرشد، بداعي الطاعة، كل هذه دوافع جسدية أي تنبع من الإنسان دون اقتناع روحي.

ثانياً: الوسائل الجسدية:

وطبيعي أن أية فضيلة يكون الدافع لممارستها دافعًا جسديًّا بشريًّا (ذاتيًّا)، فإن الوسيلة ستكون بالتالي جسدية بشرية ذاتية، أي يكون الجهد والصبر والمداومة والبذل والعزيمة كلها نابعة من الجسد والذات، فينجح الإنسان في تكميل الفضيلة بقدر جهده وصبره وبذله وعزيمته، لكن بمجرَّد أن يتوقَّف الجهد والعزيمة تتقهقر الفضيلة.

ثالثًا: الغاية الجسدية:

كذلك، فإن غاية الفضيلة التي دوافعها جسدية لابد أن تكون جسدية أيضًا، مثل أن يكون ناجحاً فيمدحه أبوه أو معلِّمه، أو مشهورًا وموثوقًا به لكي تزداد تجارته ويزداد ربحه. وهذا نجده مكشوفاً للغاية في استخدام الألقاب التي تنم عن الفضيلة من أجل ربح مادي (كالحاج فلان والمقدس فلان التاجر أو النائب ... إلخ)، أو يكون الإنسان قديساً لكي يمدحه الناس في المجالس والمجتمعات (غاية ذاتية بشرية). هنا تتساوى غاية التاجر الجشع الذي يستخدم الدين والعبادة والصوم والصلاة والتواضع لتزداد تجارته ويصلح حاله، بالمجاهد الناسك الذي يجاهد ويصبر ويبذل ويتمادى في فضائله لتُشاع عنه القداسة لكي يصير رئيساً أو عظيماً. فالغاية في الاثنين جسدية بشرية ذاتية، وبمجرَّد أن يبلغ الإنسان غايته يخلع ثوب جهاده المزيَّف.

وتماماً كما يأخذ التاجر ربحه وأجره من ممارسة هذه الفضائل، وذلك بأن يكرمه الناس ويشترون منه فيزداد ماله الذي هو منتهى آماله، كذلك يقول الرب عن العُبَّاد والنُسَّاك عموماً الذين يصومون ويظهرون للناس صائمين ويصلُّون ويظهرون للناس مُصلِّين، أنهم قد استوفوا أجرهم من الناس مديحًا وكرامة (مت 6: 2 و5 و16)، لأن هذه الغاية في الحقيقة كانت منذ البداية هي الدافع الذي كان يمدُّهم بالقوة والحرارة والصبر.

من هنا يتَّضح أمامنا أنه لكي تكون الفضائل مسيحية مُطابقة لسلوك المسيح، يتحتَّم أن تكون دوافعها روحية (الله)، ووسائلها روحية (الله)، وغايتها روحية (الله)؛ وإلا يستحيل نسبتها للمسيح.

وعلينا الآن أن نكشف سر الرباط بين الفضيلة وبين الروح:

1. أمَّا الدافع الروحي الوحيد للفضائل المسيحية جميعًا، فيشير إليه المسيح دائماً، وبلا هوادة أن يكون هو محبة الله من كل القلب، كالوصية القديمة: «وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تث 30: 6). وهذا هو عمل الله السرِّي في القلب، وكأنما الحياة تقوم على محبة الله من كل القلب، وبدونها يكون موت. وهنا ينكشف لنا أن فضيلة حب الله هي هي بذاتها جوهر الحياة مع الله، بمعنى أن انعدامها أو توقُّفها هو هو الموت.

فبمجرَّد أن يظهر في أفق الإنسان حب الله، تبدأ الذات البشرية تتقهقر. عندما يملك حب الله على كل القلب، تملك الحياة: «أَمْسِكْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (1تي 6: 12). وهنا تبدأ كل الدوافع الجسدية أن تختفي، وتموت الذات بمعنى أن لا يكون لها فعل وحركة أو طموح في ممارسة الفضيلة، إذ يكون حب الله من كل القلب قد قطع جذر الذات المنافسة والمناوئة لله منذ البدء والتي كانت السبب المباشر في البُعد واللعنة والموت.

2. أمَّا الوسيلة الروحية في تتميم الفضيلة، أي التي تتم بها جهادات الفضيلة ومُسْتَلزمات بذلها وصبرها، فهذا في الحقيقة هو أخطر ما في مفهوم الفضائل في المسيحية، لأنه إذا أخرجنا عنصر الجسد بل عنصر البشرية عامة وعنصر الذات خاصة في ممارسة الإنسان للفضيلة، فمَنْ يكون ال‍مُمارِس الحقيقي إذًا؟ وعلى مَنْ يقع ثقل الصبر والبذل والعزيمة؟

هنا يأتي دور العنصر الأساسي في تكميل الفضيلة لتكون فضيلة مسيحية، ولتكون فضيلة غايتها النهائية هي الله أو ملكوت الله.

هذا العنصر الأساسي هو الروح القدس الذي نلناه جميعًا بالمعمودية، وهو فينا على أتم استعداد للبدء بأخذ دوره الفعَّال في ممارسة أية فضيلة، إذا كان الدافع فينا صحيحًا، أي روحيًّا صافيًا من كل شوائب الجسد والذات، أي إذا كان الدافع هو حب الله من كل القلب.

هنا سر الإنجيل، هنا سر المسيح ال‍مُعلَن في القلب لكل الأتقياء الذين عبروا والذين يعبرون كل يوم، هنا يبدأ عمل الروح القدس فيمدّ الجسد بقوَّة للصبر، ويمد النفس بقوَّة للبذل، ويمد الإرادة بقوَّة عزيمة تبدو لجميع الناس أنها فعلاً قوَّة غير عادية. هنا يستحيل على أي إنسان منتبه أن يقول أن الفضيلة هنا معمولة بالجسد والإرادة، لا من جهة كمية الصوم أو الصلاة أو التواضع أو الحب، بل من جهة نوعها لأنها تكون خالية تماماً من العنف الجسدي وصرامة الإرادة، ويتخللها هدوء وسلام ولطف فائق، لأن الجسد والذات يكونان في الحقيقة خاضعَيْن تمامًا لإرادة الروح القدس، فيأتي الجهاد ممزوجاً بعنصر إلهي فائق: «الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ» (رو 8: 14)، «سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً» (تك 17: 1).

وعن قبول الروح القدس الناري وعمله فينا، يقول القديس أنبا أنطونيوس:

[ذلك الروح الناري العظيم الذي قَبِلْتُه أنا، اقبلوه أنتم أيضًا. وإذا أردتم أن تقبلوه ويسكن فيكم، قدِّموا أولاً أتعاب الجسد وتواضع القلب، وارفعوا أفكاركم إلى السماء في الليل والنهار، واطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري وحينئذٍ يُعْطَى لكم ...

ولا تفكِّروا في قلوبكم وتكونوا ذوي قلبين وتقولوا: مَنْ يقدر أن يقبل هذا؟ لا يا أولادي، لا تَدَعوا هذه الأفكار تأتي على قلوبكم؛ بل اطلبوا باستقامة قلب وأنتم تقبلونه، وأنا أبوكم أجتهد معكم وأطلب لأجلكم أن تقبلوه لأني عارف أنكم كاملون وقادرون على قبوله، لأن كل مَنْ يُفلِّح ذاته بهذه الفلاحة (النُّسْك الإنجيلي)، فإن الروح يُعْطَى له في كل جيل وإلى الأبد ...

أديموا الطلبة باجتهاد من كل قلوبكم فإنه يُعطَى لكم، لأن ذلك الروح يسكن في القلوب المستقيمة، وإذا قبلتموه فإنه يكشف لكم الأسرار العُلويَّة وأمورًا أخرى لا أستطيع أن أُعبِّر عنها، ويكون لكم فرحٌ سماويٌّ ليلاً ونهارًا، وتكونون في هذا الجسد كمَنْ هو في الملكوت، ولن تعودوا تطلبون عن أنفسكم فقط بل وعن الآخرين أيضًا ...](3).

هذه هي سمة الفضيلة المسيحية وهي سمة وحيدة فريدة، وهي قادرة أن ترفع الفضيلة من مستوى العمل البشري إلى مستوى العمل الإلهي، من مستوى ال‍منطق وال‍معقول والطاقة البشرية إلى مستوى التفوق والإعجاز: «غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ» (لو 18: 27)

لأنه يستحيل على أي إنسان يمارس فضيلة المحبة على المستوى المسيحي أن يبلغ بها بقدراته الذاتية إلى حد محبة الأعداء. هنا إعجاز متطلبات الفضيلة في المسيحية، إذ الشرط الأساسي منها يستلزم حتمًا أن تكون خالية من عنصر الجسد والذات، وهذا لا يمكن أن يتأتَّى إلا إذا كانت معمولة بالروح القدس، حتى يستطيع الإنسان أن يبلغ بحبه هذا المستوى الفائق على الطبيعة البشرية!!

فمَنْ يستطيع أن يحب عدوَّه إلا إذا كان حُبُّ الله قد ألهاه عن حب ذاته وأنساه غرائزه الحيوانية؟

أو مَنْ يستطيع أن يحب عدوَّه إلا إذا أخرَجَتْه - بل خلَّصَته - قوة الروح القدس من سلطان الذات والميل إلى النقمة والثأر؟

أو مَنْ يستطيع أن يحب عدوَّه إلا إذا كان ملكوت الله هو همَّه الوحيد، الذي من أجله وضع نفسه أن يحتمل كل شيء ويصبر على كل شيء ويتجاوز كل الموجعات واللطمات كل يوم، لكي يبلغ أمله ال‍مُتأجِّج في داخله بالروح القدس مهما قابله من عثرات أو خسارات!! ... «بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ» (في 3: 8).

هكذا ترتفع الفضيلة في المسيحية إلى مستوى الروح القدس!!

وهكذا يظل الإنسان الذي لم يَنَلْ قوة الروح يمارس الفضيلة بدوافع ووسائل وغايات جسدية دون أن يصل قط إلى جوهر وصية المسيح، لأن وصايا المسيح لا يمكن تتميمها إلا بالروح القدس: «يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ ... يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يو 14: 26؛ 16: 14 و16)؛ و«بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا» (يو 15: 5)!!

3. أمَّا الهدف؛ أي الهدف الروحي أو الغاية الروحية للفضيلة المسيحية، فهو ملكوت الله التي هي الحياة تحت سلطان الله والدخول في دائرة مُلكه وتدبيره: «لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ» (مت 6: 33)، حيث يعيش الإنسان بلا همٍّ ملقيًا كل اتكاله على النعمة، لا يخشى شيئًا في هذا العالم ولا يشتهي شيئًا.

والشيء الوحيد الذي يجعل هدف الفضيلة في الحياة المسيحية هو ملكوت الله حقًّا وفعلاً، هو أن يتخلَّص الإنسان من كل غريم آخر لله في القلب!! حيث يسود الروح القدس ويملك بلا نزاع!!

والآن نأتي إلى سبب وصفنا للفضائل المسيحية بكلمة ”حسب الإنجيل“. لأنه توجد فضائل مسيحية أخذت كيانها عن طريق الممارسات النسكية الصارمة، دون أن يشرق عليها نور نعمة الروح القدس، فأوْدَت بالكثيرين إلى البعد عن الإنجيل، حيث الفضيلة هنا صارت لهم منهجاً كاملاً وغاية بحد ذاتها، فالصوم والصلاة والسجود والتواضع والبذل والسهر والصمت كانت هي مسرَّتهم العظمى ولذَّتهم وغاية جهادهم وتعبهم وحسب، وكلما زادوها تورَّمت الذات وانتفخت وارتاحت. هنا ينبري الإنجيل ليصحِّح مسار الناسك والعابد عموماً فيقول: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ» (مت 5: 3). هنا يضع المسيح الروح القدس بالنسبة للفضائل في مقابل كل المناهج والفنون والمهارات البشرية.

هنا يفتتح الرب سجل التطويبات الرسمي للفضائل على هذا الأساس: أن تكون بالروح. وواضح جدًّا أن الرب لم يشأ أن يجعل الفقر في حد ذاته له الطوبى بل لابد أن يكون بالروح ("المسكنة" هي "الفقر" في الأصل اليوناني). لأنه قد يتخلَّى الإنسان عن كل أمواله ويصير فقيراً معدماً لكي يُمتَدَح كقديس. هنا الفقر أو المسكنة ليست بالروح بل بالجسد، وبالذات، ولأجل الذات معمولة!!

ولكن إن كان الإنسان تحت تأثير حب الله المالئ لكل القلب بدأ يفتقر وهو غني، فإن الروح القدس سيجعله مسكينًا في طراز آخر، إذ سيجعل فقره غنًى حقيقيًّا، أي فقراً فعَّالاً لمحبة الله وليس لمجد نفسه: «كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ» (2كو 6: 10).

هنا الفقر بالروح أنشأ مجالاً قادراً بحد ذاته أن يجذب الآخرين وغيرهم، لأن الروح القدس حينما يلتحم بالفعل الإنساني - حتى ولو كان فقيراً - فإنه ينشئ قوة ومجالاً فائقاً لمجد الله.

ثم يكشف الرب يسوع مرَّة واحدة وبرباط وثيق غاية أو هدف الفقر الروحي أو المسكنة بالروح هكذا: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ» (مت 5: 3)، كاشفًا عن سمات الفضيلة في المسيحية حسب الإنجيل، إذ لابد أن تكون معمولة بالروح القدس، لكي يكون لها هذه الغاية الإلهية السعيدة: ملكوت السموات.

وعلى نفس النمط تماماً يقول الرب يسوع: «لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يو 4: 23 و24). السجود بالروح هنا فعل فائق للطبيعة، فضيلة مقتدرة في فعلها، الله يطلبها ”الله روح“، ”الله طالبٌ الساجدين له بالروح والحق“. عجيبة حقًّا أن يعلن الله عن تشوُّقه السرِّي هذا: ”الآب طالب“، وذلك بالنسبة للسجود بالذات، فإنه معروف عند جميع الآباء المختبرين أنه ليس من بين جميع أعمال الإنسان ما يوازي السجود لله بالروح، فهو قوة ذات فعل متعدد الأثر، فهو يمجد الله حقًّا، ويؤسِّس في قلب الإنسان روح العبادة والخشوع ويبدِّد قوة الشيطان ويحطِّم فخاخه. ولكن مرَّة أخرى ننبِّه أنه ليس مجرَّد السجود، بل السجود بقوة الروح القدس!!

وفي النهاية نستطيع أن نقول إنه بنظرة واحدة فاحصة يستطيع الإنسان المدقِّق أن يرى كل صرح الفضائل المسيحية، كيف هو قائم على أساس واحد ثابت لا يهتز منذ البدء بحسب الإنجيل، كما أوضحه الرب يسوع المسيح: «أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ.هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى» (مر 12: 29 و30). أو كقول موسى مرَّة أخرى: «وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا» (تث 30: 6).

هذا هو المفتاح السرِّي لكل الفضائل المسيحية، لأنه بمجرَّد أن يتجه القلب طالباً حب الرب من كل القلب، ويسود هذا الحب على كل مَلَكَات النفس، ويطغي على كل الفكر، ويسيطر على كل القدرات، يدخل الإنسان تحت تدبير الروح القدس ليعمل الفضائل بإرشاد وحكمة وتدبير يفوق كل ما عند الإنسان من جهد وقدرة وعزيمة؛ حيث يعمل الإنسان الفضائل بفرح وعمق وسهولة وقدرة تحيِّر العقول، حيث تشهد الأعمال على فعل الروح القدس ببرهان وقوَّة وحكمة لا تُعانَد، حيث يصير كل المجد لله.

وهكذا، فإن الفضائل المسيحية التي يعيشها الأتقياء في كل جيل قامت وتقوم على فعلين رئيسيين: واحد من جهة الإنسان، والآخر من جهة الله. أمَّا فعل الإنسان المُطالَب به، فهو أن يكون دافع كل عمل هو حب قوي وكامل لله من كل القلب. وأما فعل الله الذي يتعهَّد به فهو منح قوة الروح القدس لتكميل كل فضيلة لمجد الله وملكوته!!

___________________________________________________

(1) من كتاب الفضائل المسيحية بحسب الإنجيل للأب متى المسكين من صفحة 5 - 14.

(2) مفهوم كلمة ”فضيلة = أريتي“ وهي ذات صلة جذرية بالكلمة أريستوس وتعني ”ممتاز، فائق، شريف“:

1. هذه الكلمة - خارج المسيحية في الوسط اليوناني أيام كتابة الأناجيل والرسائل - كانت تفيد الغِنَى والشهرة بجوار فضيلة الإنسان كلقب من جهة أخلاقه وسلوكه، وهي ما تقابل اليوم لقب ”صاحب السمو أو الرفعة أو المعالي أو النيافة His Eminence“ للدلالة على التفوق في أي ميدان متخصص سواء الحرب أو الكلام أو امتلاك قدرة أو قوة فائقة.

2. وقد بدأت الكلمة في المحيط الفلسفي اليوناني تأخذ معنى الفضيلة بمفهومها العادي، وبدأت تؤثر في الفكر اليهودي، وقد استخدمها ”فيلو“ الفيلسوف حيث بدأت تدخل الفكر الديني بعد ذلك بمفهوم خاص يقترب من معنى البر أو العدل أو الاستقامة. على أنها جنحت في أيام المكابيين إلى معنى الأمانة البطولية من جهة حفظ الإيمان في الحياة حتى الموت (2مك 10: 28).

3. على أنه في ترجمة العهد القديم إلى اليونانية المدونة بالترجمة السبعينية، وكذلك العهد الجديد أيضاً، لم تأتِ هذه الكلمة لتفيد أيًّا من القدرات الإنسانية أو الاستحقاق البشري، وإنما جاءت لتفيد ”أعمال الله في الإنسان“.

وقد وردت في رسائل القديس بولس مرَّة واحدة في رسالة فيلبي 4: 8، حيث جاءت بعيداً عن المفهوم اليوناني القديم، لتفيد سلوك الإنسان البار بالاجتهاد والسعي المتواصل في إطار حفظ الله للقلب والفكر، وبنفس المعنى جاءت في رسالة القديس بطرس الرسول الثانية: «لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. وَلِهذَا عَيْنِهِ - وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ - قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً» (2بط 1: 4 و5).

الارتباط هنا أصيل وهام، بين أن نكون شركاء الطبيعة الإلهية وبين الاجتهاد في تقديم الفضائل الملتحمة بالإيمان بالمسيح، حيث فضائل الإيمان هنا هي حصيلة اجتهاد الإنسان في الشركة في الطبيعة الإلهية.

والقديس بطرس الرسول يكشف لنا بصورة واضحة ونهائية معنى الفضيلة أو الفضائل في العهد الجديد في رسالته الأُولى باعتبار أن أية فضيلة يتحصَّل عليها الإنسان الحار بالروح نتيجة إيمانه بالمسيح، هي في الحقيقة صورة حيَّة لفضائل المسيح نفسه: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ» (1بط 2: 9). هنا الإخبار - أي البشارة بفضائل المسيح - إنما هو السلوك بالإيمان في نور المسيح.

(See: Theological Dictionary of the New Testament, vol. 1, p. 457).

(3) رسائل القديس أنطونيوس - الرسالة الثامنة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis