أولاً: تبدّل الحكم في الصين ووثبتها التي لا تقاومتوالى الأباطرة على الحكم في الصين آلاف السنين كما يعلم الجميع، حتى العام 1911 حين خُلع الامبراطور الأخير «بويي»، وأُعلنت أثر ذلك «جمهورية الصين» حتى العام 1949. وكانت تلك الفترة حافلة بالحروب الخارجية مع الغرب ولا سيما مع اليابان، وداخلياً مع الاقطاعيين، الى أن انحصرت في الأربعينات بين الزعيم ماو تسي تونغ وتشايكن نشك الذي هرب من برّ الصين واستقر مع جماعته في جزيرة فورموزا معلناً اياها «جمهورية الصين الوطنية». بينما تابع ماو مسيرته الطويلة والشهيرة على رأس الشيوعيين منتهياً العام 1949 بدخول بكين واعلان جمهورية الصين الشعبية. وبعد 14 سنة من ترسيخ الاشتراكية القاسية، حدا به الحماس المتطرّف الى إعلان الثورة الثقافية عام 1963 مغلقاً الصين على نفسها ومانعاً الاتصال بالخارج حتى 1971 حيث كان له ما يريد من الأمم المتحدة، فطردت الصين الوطنية (تايوان وحلّت مكانها الصين الشعبية كذلك كعضو دائم في مجلس الأمن). سنة 1974 انتهت الثورة الثقافية، الا أن ماو تسي تونغ كان قد شاخ وضعفت قبضته على الحكم حتى وفاته. فبدأت الصين الشعبية انفتاحها فعلاً على العالم الخارجي إقتصادياً، إنما بتمهل، بقيادة القائد الجديد ونغ شياونغ الذي راح يشجع الانتاج الزراعي ونتيجة له زيادة في الانتاج الصناعي برفع قيود السلطة عن الوحدات والتجمعات الاقتصادية وحتى عن الأفراد، متوجهة هكذا من الاقتصاد الموجّه الى إقتصاد السوق، فاتحة أبوابها للرساميل الأجنبية ولقيام مشاريع مشتركة مع البلدان الغنية والسوق الأوروبية المشتركة وكندا وأستراليا واليابان، مشجعة بنوع خاص عودة الصينين برساميلهم للاستثمار في الوطن الأم.

الدكتور حاتم يلقي كلمة شكر للبنان

حصل كل ذلك نتيجة مقررات المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي الذي ترأسه بطبيعة الحال الرجل القوي الجديد في الصين دنغ شيا وينغ. فما هي مؤشرات التحوّلات الجديدة؟
1- ايديولوجيا: كان يعتقد دنغ شياو بنغ أن بعض أفكار ماركس وأنجلز ولينين لم تعد صالحة للتطبيق. إذ مضى على هذه الأفكار وقت طويل، ولو قدّر لهم أن يعيشوا حتى اليوم لغيّروا بعض أفكارهم. وأشار دنغ الى أن الصين يجب ان تبني اشتراكيتها بخصائص صينية وضرورة تحديثها باعتماد أنماط ووسائل غريبة للتنمية، لا سيما أن الصين أصبحت مزنّرة بحزام اقتصادي مزدهر بفضل مساعدات وتقنيات أميركية كاليابان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافوره...
2- القطاع الزراعي: بدأت القيادة الصينية في التغيير انطلاقاً من الرّيف المتخلف بفرض «نظام المسؤولية» متيحة للمزارعين تسويق ما يزيد عن الكوتا الانتاجية المقروضة من قبل الدولة في السوق الحرة على أن يكون نصيب الزيادة من نصيبهم.
3- الاصلاحات الاقتصادية (أيضاً من قرارات المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي): على ضوء النجاح في التجربة الزراعية عمدت القيادة الصينية الى اعطاء الحوافز البشرية حيّزاً كبيراً من الانتاج الصناعي باطلاق قوى السوق لتتحكم بأكثر من مئة سلعة استهلاكية إنتاجية وللمصانع حرية التسويق واستعمال بعض الأرباح في تحديد وسائل الانتاج والتشجيع بتحويل قسم من الأرباح الى الخارج والسماح بانتشار شركات مختلطة (Joint Venture) في خطط خمسية للتنمية. وتشجيع الاستثمارات الغربية في قطاع استخراج النفط والغاز في بحر الصين الجنوبي والترخيص للبنوك الصينية لتسليف القطاع الخاص المتعافي بفوائد معقولة وتشجيع القطاع السياحي. وعمدت السلطات أيضاً الى زيادة الأجور للعمال والموظفين لأنها كانت متدنية جداً.

ثانياً: العلاقات الصينية اللبنانية
كان لبنان القديم المعروف بفينيقيا له مركزه المرموق تحت الشمس. إذ كان أسطوله يمخر البحار نحو الغرب والقوافل البرية كانت تأتيه من الشرق نحو البحر المتوسط. وقد رصدت ذلك في الصين في المراكز المخصصة لطريق الحرير القديم الذي كان يربط مدينة شيان الصينية بمدينة صور الفينيقية في لبنان، وهو آخر مرفأ آسيوي لطريق الحرير قبل متابعة البضائع الصينية طريقها الى أوروبا بالزوارق الفينيقية.
ابتغيت في هذه المقدمة إظهار وجود علاقات قديمة جداً بين لبنان والصين منذ العهود القديمة وقبل إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية.
وفعلاً تصادف هذا العام ذكرى انقضاء ثمانية وأربعين عاماً على إقامة هذه العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والصين الشعبية. إذ بعد إبطال عضوية تايوان من منظمة الأمم المتحدة سنة 1971 وإخراجها منها حلت مكانها جمهورية الصين الشعبية التي أصبحت بطبيعة الحال عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، فأسرع لبنان الى الاعتراف بها وقد وضع لذلك بيان مشترك بتاريخ 9/11/1971 أعلن في الوقت نفسه في العاصمتين بيروت وبكين يوم 10/11/1971.
تجدر الاشارة الى أنه كان هناك علاقات برزت بين زمن العلاقات القديمة والعلاقات الدبلوماسية الحالية التي كان فيها لبنان حاضراً في الصين رأيت التحدث عنها واجباً واصفاً اياها بحقبات مختلفة.
الأولى: حقبة الدكتور جورج حاتم (إسمه في الصينية MA HAIDE) حضور علمي ونضالي (منذ 1931). علمي لأنه بجهوده تمكنت الصين من القضاء على البرص، ونضالي لأنه رافق الزعيم ماو تسي تونغ في مسيرته الشهيرة من العام 1937 الى 1949، أي الى الوصول الى بكين 1949 وإعلان جمهورية الصين الشعبية وتعيينه من قبل ماو مراقباً طبياً لكل وزارات الصحة في الصين. وللدكتور حاتم قصة طويلة منذ ولادته في نورث كارولينا حتى سفره وإقامته نهائياً في الصين. والتحدث عنه وعن إنجازاته يستوجب شرحاً طويلاً، لذلك أترك هذا الموضوع الى التركيز عليه بالتفصيل مستقبلاً.
بجهود الدكتور جورج حاتم تمكنت الصين من القضاء على البرص وتم تعيينه من قبل ماو مراقباً طبياً لكل وزارات الصحة في الصين


الحقبة الثانية: حقبة حضور جبران خليل جبران بكتابه النبي الذي ترجمته الى الصينية عميدة الكتّاب الصينيين بنغ تشن (حضور ثقافي للبنان العام 1933).
الحقبة الثالثة: حقبة معالي الوزير عدنان القصار، حضور إقتصادي وتجاري منذ 1955 ولم يزل حتى يومنا رائداً للتبادل الاقتصادي مع الصين بعد أن أنشأ الغرفة التجارية الصينية العربية أيضاً.
الحقبة الرابعة: ظاهرة بيار أبو خاطر رحمه الله رجل الخير الكبير: حضور ثقافي وعمراني في الوقت ذاته منذ 1995. أهم إنجازاته: أعماله الانسانية بمساعدة تعليم الأطفال وتغطية نفقات الطلاب في الخارج وأهم من كل ذلك مساعداته للمستشفيات التي فيها أجنحة لمعالجة سرطان الأطفال. وتوّج أعماله قبل وفاته ببناء مدرسة في الصين قدّمها كاملة من ماله الخاص عرفاناً بالجميل لهذا البلد الصديق، وقد طلب مني تدشينها فقمت بذلك سنة 1997 في مقاطعة تشاندونغ الصينية أطلقنا عليها إسم «مدرسة لبنان للبنات» “Lebanon School for Girl" وهي تتسع لـ 600 طالبة.
أما العلاقات الدبلوماسية بين البلدين فقد تجلّت بالتأييد الدائم للبنان في الأمم المتحدة والزيارات المتبادلة بين القادة اللبنانيين والصينيين، وقد توّجت هذه الزيارات بتلك التي قام بها المغفور له الرئيس رفيق الحريري عام 1995، وكذلك السيدة منى الهراوي (السيدة الأولى آنذاك) على رأس وفد مكوّن من 135 سيدة لبنانية للاشتراك بمؤتمر المرأة الرابع الذي عقد في بكين العام 1995.
الخلاصة: العلاقات بين الصين ولبنان تنمو مع الأيام. ومن ثمرة هذه الصداقة تجدر الاشارة الى أن الصين قرررت إهداء لبنان بناء على شاطئ ضبيه – قضاء المتن يضم قاعات اوبرا وقاعات للكونسرفاتوار اللبناني لتعليم الموسيقى. وسنرى ذلك جاهزاً بعد سنتين، وتقوم بتنفيذ البناء شركات صينية وبمال صيني. هكذا تترجم العلاقات والصداقة. فشكراً لجمهورية الصين الشعبية التي فهمتها وأحببتها في العمق.

* رئيس منتدى سفراء لبنان
سفير لبنان الأسبق في الصين
(1985- 1998)