هذا المقال لن يغيّر رأيك!

مقال نشر في “ذا أتلانتك” للكاتبة “جولي بك”، ترجمه لصالح المدوّنة: أحمد عبد الرحمن.

تأتي أهمية هذا المقال بكونه من الممكن أن يقلل حدّة النقاش بين المتناقضين في مجتمعنا، لاسيما في الوقت الذي نرى فيه الاعتداءات الصارخة، والشماتة الوقحة بضحايا هذه الاعتداءات من الأطراف المختلفة. إذا كنّا لن نتفق بسهولة أن نقيم مناظرة ونردّ على بعضنا البعض بما نعرفه من حقائق، فهذا ليس سببا لإنهاء النقاش، ولكن إن كان النقاش سيسبب مزيدا من التصلّب، بسبب عدم اتباع النافذين سياسة تقلل من التأزيم في هذه الحوارات، فالخيار الأمثل هو عدم الدخول في مثل هذه النقاشات، كما يقترح المقال. يراعى عند قراءة المقال أنه موجّه بالأصل لجمهور أمريكي.

الحقائق التي تقول: إنّ الأدلّة وحدها لا تكفي لمحاربة المعتقدات الخاطئة.

تعريف ← غورو أو جورو هي كلمة ذات أصول سنسكريتية وتحمل عدة معاني في بعض اللغات الآسيوية, ولكن المعنى الأكثر شيوعاً والمشار إليه في هذا المقال هو المعلّم الروحي.

يقول دانيَل شو: “أتذكر كيف نظرتُ إليها وأنا أقول في سّري: يا لها من كاذبة، وفي نفس الوقت أتذكر أنّي قلت لنفسي: ولكنّ ذلك لا يهم.” لم يهتم دانيَل عندما لاحظ أن رئيسة طائفته الروحية كانت تكذب، فقد أمضى الرجل سنينا وهو مخلصٌ للغورو ومكرسًا نفسه لها، ولكنّ إخلاصه هذا لم يكن إيماناً أعمى بأنها شخصٌ في قمة النقاء كما كانت تدّعي، لقد كان هذا الإخلاص شيئاً اختاره هو وصرّح عنه في كتابه قائلاً: “أتذكر أنّي اخترت الاستمرار في اتّباعها عن كامل وعي.”

ثمة معتقدات وثمة حقائق، وثمّة أشياء نريد تصديقها بشدّة حتّى إنها قد تصبح كالحقائق لنا.

تعرّف شو عام 1980 على مركز تأمّل ’سيدا يوغا‘ في شمال ولاية نيويورك خلال مدّةٍ وصَفَها بأنها كانت “نقطة ضعف في حياته،” قد كان يواجه مشاكل في علاقاته الاجتماعية وفي العمل، ولم تكن جلسات العلاج النفسي تؤدي غرضها المنشود. يقول شو: “تجربتي مع سيدا يوغا كانت جيدة للغاية، والتأمل كان مفيداً جدّا حتى إنني كنت أتعمق فيه أكثر فأكثر، وفي إحدى المراحل ظننت أنني قد وجدت هدف حياتي الأسمى.” لذلك وفي عام 1985، قام شو بتوفير المال وسافر جوًّا للهند لينضم لفريق العمل الخاص بـ”غوروماي تشيدڤِلاسَنندا”، زعيمة الطائفة/المنظَّمة الروحية التي كان لديها عشرات آلاف الأتباع في الهند وحول العالم. عمل شو في المنظمة وترقّى فيها، ثم أمضى وقتاً طويلاً وهو يسافر لخدمة المنظمة تارةً كمرافق لغوروماي وتارةً لتفقّد المراكز التابعة لها في الولايات المتحدة.

ولكن وفي عام 1994، سلّطت صحيفة النيويوركر الضوء على فضيحة لسيدا يوغا عندما نشرت مقالاً للكاتبة ليز هاريس يشرح تفاصيل ادعاءات بالإعتداء الجنسي والتي كانت موجهةً ضد سِلف غوروماي، بالإضافة لإتهامها بأنها فصلت أخاها نِتيانَندا من المنظمة.

يقول شو أنه كان يسمع إشاعات عن التحرش الجنسي عندما التحق بالمنظمة في الثمانينات ولكنه “اختار أن يقرر أنها لا يمكن أن تكون حقيقة.”

سافر شو للهند بعد انتشار الخبر وفي اليوم التالي اجتمع هو وأعضاء من المنظمة مع غوروماي التي شرحت أنّ أخاها، الذي كان شريكها في قيادة المنظمة، قد غادر المنظمة من تلقاء نفسه. كانت تلك هي اللحظةُ التي أدرك عندها شو أنّ غوروماي تكذب، وكانت هي اللحظة نفسها التي قرر فيها أن كذبها هذا لا يهم لأنها حسب قوله: “كانت الغورو، وهي حتماً تفعلُ ذلك لأسباب منطقية ومبررة، فلا يهمّ أنها تكذب.”

غوروماي كانت نفت، وما زالت تنفي، أنها طردت أخاها طرداّ، وسيدا يوغا ما زال قوياً حتّى يومنا هذا.

كل هذا كان في الماضي، فقد نجح شو في نهاية المطاف في الخروج من تلك الدوّامة، وهو يعمل اليوم كمعالج نفسيّ يسخّرُ بعضاً من وقته للاهتمام بأعضاء الطوائف السابقين وأفراد عائلاتهم.

طوّرَ عالم النفس الاجتماعي ليون فستِنجر في الخمسينات نظرية ’التنافر الإدراكي‘ التي تفسّر شعور الضيق الشديد الناتج عن إيمان الشخص بفكرتين متناقضتين في الوقت نفسه، وفي دراسةٍ مشهورة قام فستنجر وزملاؤه بالانخراط في طائفة ترأسها امرأة اسمها دوروثي مارتن وتدّعي أنها رسولة أخر الزمان وأنّ جماعة من الفضائيين يدعَون الحُماة كانوا قادمين لأخذها هي وأتباعها بصحون طائرة لإنقاذهم من طوفان آت.

لم يتحقق أي شيء ادعته دورثي ولكنها كانت تعود كل مرة برواية مختلفة: “لم يأتِ أي فضائيّ اليوم، ولكنهم حتماً آتون غدا،” وهكذا دواليك. كان الباحثون ينظرون بتعجب شديد لأتباعها إذ يصدقون روايات دوروثي المختلفة على الرغم من كل الأدلة التي تثبت أنهم على خطأ.

نشر فستنجر وهنري رايكن وستانلي شاكتر كتابهم عن هذا الدراسة عام 1957 بعنوان ’وِن بروفيسي فيلز‘ أو ’عندما تفشل النبوءة‘ وفيه يقولون: “الشخصُ ذو القناعة هو شخصٌ صعب التغيير. أخبره أنك لا تتفق مع قناعته فيعرض عنك. أره حقائق وأدلة وأرقاماً فيشكك بمصادرك. استعن بالمنطق، فيفشل في استيعاب وجهة نظرك. فإذا قلنا: إنه كان لدينا دليل قاطع لا مجال للشك فيه بأن ما يؤمن به خاطئ فما الذي سيحدث؟ سيواجه بعض الصعوبة ولكنّه سيعود مرة أخرى غير مهزوز بل وعلى قناعة أكبر من أي وقتٍ مضى بأنّ ما يؤمن به هو الحق.”

عندما يضاعف الشخص جهوده بوجه الأدلة التي تنقض معتقداته، فهو في الواقع يحاول تخفيف شعور الضيق الناتج عن التنافر الذهني بين ما يراه صحيحاً في الأدلة وما يراه صحيحاً أيضاً في معتقده. ومضاعفة الجهد هذه هي جزء من عدة تصرفات تُعرف في علم النفس بطرق الاستدلال المدفوع، والذي يُعرّف على أنه ظاهرة اتخاذ القرار بشكل متحيّز عاطفيّا، فيُقنعُ الشخصُ نفسه أو يستمر بالاقتناع بشيءٍ يريد تصديقه. عندما يقوم الشخص بالاستدلال المدفوع (عن غيرِ وعيٍ منه بذلك في معظم الأحيان) فإنه يبحث عن معلومات تتوافق مع ما يؤمن به ويتقبلها بسهولة بينما يتجنب ويتجاهل ويحقّر وينسى ويشكك في أي معلومة تعارض ما يحاول هو إثباته.

تبدأ عملية فرز المعلومات عند الحدود الخارجية للانتباه، فيبرمج الشخص نفسه (أو تبرمج الأفكار حاملها) لتحديد نوع المعلومات المنشودة والتي يجب على الشخص إعارتها انتباهه. ففي دراسة أجريت عام 1967، قام باحثون بإسماع طلبة جامعيين تسجيلاتٍ لخطابات و محاضرات متنوعة، ولكن الخطابات لم تكن واضحةً تماماً فقد قام الباحثون بإضافة تشويش بسيط على الصوت وزرّ بجانب الشاشة للسماح للمشاهد بإزالة ذلك التشويش مؤقتاً حينما أراد. بعض الخطابات كانت إما تربط التدخين بالسرطان وإما تهاجم الأدلة التي تثبت ذلك، وفي بعض الأحيان كانت الخطابات عن الدين المسيحي.

النتائج كانت أنّ الطلاب المدخنين كانوا متحمسين بشدة لسماع الخطابات التي تنفي أن التدخين يسبب السرطان ولذلك كانوا يضغطون على زرّ إزالة التشويش عند سماعها، بينما كان غير المدخنين يضغطون ذلك الزر عند سماعهم للخطاب الذي يهاجم التدخين. بطريقةٍ مشابهة، كان الطلاب المتدينين يتركون الخطاب الذي يهاجم المسيحية يضيع في ذبذبات التشويش، في حين أنّ الطلاب الغير متدينين كانوا يضغطون على زر إزالة التشويش أثناء سماعهم ذات الخطاب.

هذا النوع من التعرض الانتقائي (ميل الأفراد لتفضيل المعلومات التي تدعم آرائهم المسبقة) هو حتماً أسهل على الأفراد خارج مختبرات التجارب العلمية، فبإمكان الشخص أن يغلق الراديو أو يغير القناة أو يتجنب نقر زر الإعجاب بصفحات موقع فيسبوك إذا رأى أو سمع أي شيءٍ يناقض معتقداته أو آراءه، فيبني الشخص قلعةً من وِسادات الأفكار التي يراها مريحة له.

أغلب الناس ليسوا منغمسين في كهوف أفكارهم المريحة، فبعضهم يصنع نوافذ ليتلصّص منها بين وقتٍ وآخر وحتّى إنه قد يخرج للتنزه في عالم الأفكار المختلفة، وبذلك فهو سيلمح بين حين وآخر معلومات وأفكاراً قد توحي بأن شيئاً من معتقداته أو أرائه خاطئ. كثيرٌ من هذه المصادفات قد لا يكون مهمّا وقد يغيّر الشخص رأيه إذا كان الدليل وافياً، كأن يكون الشخص معتقداً أن الطقس سيكون مشمساً ثمّ يخرج ويتفاجئ بالسماء تمطر، فعندها سيفتح الشخص مظلته ويكمل يومه بكل بساطة، ولكن إذا كان الرأي أو الاعتقاد الذي يتعرض للاختبار متصلا بهوية الشخص أو نظرته للعالم والحياة (كأن يكون الغورو الذي سخرت نفسك له متهما بجريمة ما، أو أن تكون السجائر التي أدمنت تدخينها تفتك بك شيئا فشيئا) فعندها سيقوم الشخص بِليّ المنطق كما يحلو له لكي يبقى مقتنعاً بأنه على حق ولا يكون مضطرا لمواجهة المشاعر الناجمة عن التنافر المعرفي.

يرى عالم النفس توم جيلوفيتش أن الناس يرون الأدلة التي لا تتفق مع ما يأمنون به على أنها أدلة أضعف وأن عليهم التأكد والتحقق منها أكثر من الأدلة التي تتوافق مع ما يريدون أن يؤمنوا به لأنهم في تلك الحالة يسألون أنفسهم سؤالين مختلفين جوهريّا، فيكتب قائلاً: “بالنسبة للاستنتاجات المرجوّة يبدو الأمر كما لو أننا نسأل أنفسنا ’هل يمكنني تصديق ذلك؟‘ أمّا بالنسبة للاستنتاجات غير المستساغة نسأل ’هل يجب أن أصدق ذلك؟‘” فالناس يصِلون لبعض المعلومات فيطلبون إذناً من أنفسهم بأن يصدقوها، ولمعلومات أخرى وهم يبحثون عن مهرب لأنفسهم، عن طريق إيجاد أي تفسيرٍ يساعدهم على الاستمرار بتصديق ما يريدون تصديقه.

كتب الفيلسوف وليام كنجدن كليفرد مقالاً عام 1877 بعنوان ’ذا إثكس أُف بيليف‘ أو ’أخلاقيات الإيمان‘ والذي قال فيه: “إنه لمن الخطأ دائماً وفي أي مكان ولأي شخص أن يؤمن بشيءٍ بدون أدلة كافية عليه.”

لي ماكنتاير أخذ موقفاً أخلاقياً شبيهاً في كتابه الذي نشره عام 2015 بعنوان ’احترام الحقيقة: الجهل الاختياري في عصر الإنترنت‘ فيقول: “العدو الحقيقيّ للحقيقة ليس الجهل بالمعلومات أو رفضها، بل المعلومات الزائفة.”

سواءً كان الإيمان بشيءٍ خاطئٍ أمرًا لا أخلاقياً أو لم يكن، فهذا لا يهم لأن الناس سيفعلون ذلك في كلا الحالين، وفهمهم لما يؤمنون به لن يكون شاملاً حتى لو كان ما يؤمنون به صحيحًا، فكثير من الناس الذين يؤمنون بأن الاحتباس الحراري يحدث حقّا لا يستطيعون تفسير كيفية حدوثه، وكما يقول الفيلسوف وعالم النفس وليام جيمز في مقاله الذي يرد فيه على مقال كليفرد (الذي سلف ذكره) فإن الإيمان الديني بتعريفه هو مجال يحتاج الناس فيه أن يصدقّوا شيئاً لا دليل عليه.

جميع أشكال المعلومات الزائفة؛ كنظريات المؤامرة والخدع والبروباغاندا وحتى الأخطاء البريئة، تشكل خطراً على ’الحقيقة‘ عندما تنتشر كالنار في الهشيم بين أفراد المجتمع وتستقر في عقولهم على أنها حقيقة، ولكن المشكلة الأعظم في المعرفة الزائفة، وهي المشكلة الكامنة والمتأصلة فيها، هي أن حاملها لا يعرف أنها زائفة، ولهذا تصعب مواجهة المعتقدات الخاطئة بالحقائق، فبالنسبة لحاملي هذه المعتقدات هم يحملون ’الحقيقة.‘

لأول وهلة، قد يصعب فهم ظاهرة المعتقدات الخاطئة وما يصحبها من تصرفاتٍ وظواهر أخرى من منظورٍ تطوري. ماكنتاير الباحث في مركز الفلسفة وتاريخ العلوم في جامعة بوسطن، يقول: “ليس من المنطقي أن يكون الشخص شكوكيّا فيقول ’لا، هذا الذي يقف أمامي ليس نمراً‘ لأنه إن فعل ذلك سيؤكل،” وبالتالي لن يستمر نسله ومع الزمن ستختفي هذه السمة الوراثية من الوجود.

ولكن ثمة أشياء أهم من الحقيقة، فلو أخذنا المثال السابق وعدلناه فتخيّلنا أن شخصاً سمع زمجرة نمِر خلف شجيرات بجانبه فسنرى أن الفعل المناسب هو الهرب بسرعة، حتى ولو اتضح بعدها أن صديقه كان يمازحه فإنّ خيار الهرب سيكون هو الخيار الأنسب دائماً، فالنجاة أهم من الحقيقة.

“من وجهة نظر تطورّية، فإنّ الإنسان لا يحتاج لمعرفة حقيقة كل شيء بقدر ما يحتاج الدعم الاجتماعي الذي قد يأتي أحياناً على حساب التنازل عن معرفة بعض الحقائق.”

باسكال بوير، الذي يعمل أنثروبولجياّ وخبيرا في علم النفس في جامعة واشنطن، يشير في كتابه ’الشيء الأكثر طبيعيةً: كيف يفسّر التطور المجتمعات البشرية‘ إلى أن حقيقة الأشياء تزداد تعقيداً عندما لا يكون الموقف بدائياً، كأن يكون الشخص على وشك أن يؤكل مثلاً، فيكتب قائلاً: “البيئة الطبيعية للبشر هي المعلومات التي يحصلون عليها من غيرهم من البشر، فهي لهم كالبحر للدلافين أو كالجليد للدببة القطبية، وبدونها لا يستطيعون أن يقوموا بالوظائف التي تؤمن نجاتهم كالصيد أوعلف المواشي أو اختيار الأزواج أو صنع الأدوات، فبدون التواصل لا يمكن للبشر النّجاة.”

الخبرات والمعلومات لا تأتي مجّانا، والأشخاص الذين لديهم معلومات قيّمة يكونون ذوي أهمية كبيرة في بيئة المعلومات هذه، فإن استطاع شخص إقناع الناس بأنه مصدر جيد للمعلومات، وهو ليس كذلك حقّا، فإنه سيحصل على الكثير من الفوائد من غير أن يضطر لبذل جهد حقيقي في سبيلها. هذا يجعل الكذب شيئاَ مغرياَ لكثيرين، والذين ينجحون في إقناع الناس وبيعهم هذه الخبرات والمعلومات الزائفة _على أنها ذات قيمة_ يحصلون على مردود عظيم ويزدهرون.

واقترح بعض الباحثين أن الاستدلال المدفوع تطور لدى البشر كوسيلة يحتمون بها من المخادعين كالباعة المتجولين وغيرهم؛ فتقول الفرضية أن الناس قد يستمرّون بتصديق الشيء الذي اعتادوا تصديقه حتى لا يقعوا ضحية الخداع، ولو كان ما يقوله الطرف الآخر مقنعاً.

يقول باسكال بوير: إن “هذا السباق بين الخداع ومحاولات كشفه وتعريته هو شيءٌ شائع في الطبيعة.”

نشر القصص الكاذبة يعطي الكاذبين شيئاً أكثر أهمية من الخبرات الزائفة – نشرها يعطيهم قابلية معرفة من يقف في صفهم. فلو اتّهم أحدهم امرأةً بأنها ساحرة أو حاول أن يبرهن أنّ آثار التكثّف التي تتركها الطائرات النفاثة خلفها تحوي مواد ضارة، فسيعرف أن الذين يصدقونه فوراً هم أشخاص يمكنه أن يثق بهم ويعتمد عليهم، على عكس من يكذبونه أو يبدون أي تساؤل حول مزاعمه.

يقول بوير أن “الأشخاص قد ينشرون القصص وهم يعلمون أنها اختبار للناس من حولهم، فمن يصدقونها ويتفاعلون معها هم أناس مستعدون للوقوف بجانب ناشر القصص. فمن وجهة نظر تطورّية، الإنسان لا يحتاج لمعرفة حقيقة بعض المسلّمات التي لا تؤثر على حياته بصورة مباشرة وكبيرة بقدر حاجته للدعم الاجتماعي من محيطه؛” فالتؤمل والشعور بلانتماء اللذان اختبرهما دانيَل شو في سيدا يوغا، على سبيل المثال، كانا أكثر أهمية بالنسبة له من أخطاء الغورو المزعومة آنذاك.

المعتقدات الخاطئة هي أفكار يعتنقها الأفراد بإرادتهم الحرة ولكن الظاهرة بحد ذاتها تعتبر مشكلة جماعية، فأتباع دوروثي مارتن استمروا بتصديق رواياتها المختلفة، ودانيَل شو استمر في احترام الغورو فقط لأن هذه المعتقدات كانت مرتبطة بمجموعة كانوا ينتمون إليها، وهي مجموعة كانت ذات أهمية بالغة لحياتهم ومشاعرهم.

يصف دانيَل شو الاستدلال المدفوع الذي يحصل عند أفراد هذه المجموعات فيقول: “أنت تكون مستعدا لتدافع عن آرائك التي اخترتها بغض النظر عن نوع المعلومات المطروحة أمامك، لأنك إن لم تفعل ذلك فستخسر عضويتك في هذه المجموعة التي تهمّك بشدة.” ولأن استخدام الطوائف كمثال قد يضيّق نطاق الفكرة المرجوّ إيصالها، يقول شو: إن الناس في الواقع يتصرفون على النحو نفسه فيما يخص أي مجموعة تهمهم أو يرون معنى وجودهم فيها، كالأسرة مثلاً.

برزت الأحزاب السياسية خلال العقود الأخيرة في الولايات المتحدة كصنف من المجموعات التي يربط منتموها أو مؤيدوها هويّاتهم بها، كما تظهر دراسة قام بها خبيرا العلوم السياسة كِيث پُول وهاوَرد رُوزنثال عن الاستقطاب الحزبي في الكونغرس الأمريكي أن حدة الاستقطاب في عام 2015 كانت الأعلى منذ 136 عاماً، كما يظهر الرسم البياني التالي.

الاستقطاب الحزبي في شِقَّي الكونغرس الأمريكي من عام 1879 حتى عام 2015

Keith T. Poole and Howard Rosenthal, voteview.com

يقول ابرندن، أستاذ الدراسات الحكومية في كلية دارتمث: إن “الحزبية السياسية أصبحت جزءًا قويا من هويتنا كأمريكيين، لذا من السهل رؤية كيف لنا أن نصبح قبليّين في آرائنا.”

مع أن الحزبية في الولايات المتحدة في تزايد مستمر منذ عقود كما يظهر الرسم البياني، فإن انتخاب دونالد ترمب ووقته القصير كرئيس جعل الحزبية وعلاقتها بالحقائق تبدوان كإحدى أهم مسائل العصر. ففي السنتين الأخيرتين انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي روايات أخبار زائفة ومركّبة بدقة عالية لتغري وتجذب مؤيدي هذا الحزب أو ذاك، فحيناً تقنعهم بأن بابا الفاتيكان يدعو لنجاح ترمب في الانتخابات، وحيناً بأن أفراد إحدى اشهر فرق موسيقى الروك سيجتمعون من جديد ليسجلوا ألبومًا ضده.

تشير بعض الدراسات إلى أن المحافظين في الولايات المتحدة هم أكثر عرضة لتصديق روايات الأخبار الكاذبة، وهذا أكده أحد كاتبي هذه الروايات عندما قال في مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة في الولايات المتحدة: “القصص التي كتبها مستهدفاً الجمهور الليبرالي لم تنجح في الانتشار بشكل كبير.” هذا الأمر يبدو أنه تغير بعد فوز ترمب بالانتخابات، فروبنسن ماير الكاتب في صحيفة الاتلانتيك يقول بأن الأشهر الأخيرة، أي التي سبقت تاريخ كتابة هذا المقال، شهدت انتشاراً ملحوظاً في روايات الأخبار الكاذبة بين صفوف “التقدميين”، كتلك التي تقول أن إدارة ترمب على وشك الانقلاب عليه، أو أنه سيتم اعتاقله ومحاكمته في وقت قريب.

على الرغم من أن ترمب وكلنتون كانا مكروهَين من قبل بعض أعضاء حزبيهما (وخصوصاً ترمب الذي كانت تشن ضده حملة “لا لترمب” بين أعضاء حزبه ليمنعوا ترشّحه عن الحزب)، فإن أغلبية الأعضاء أعطوا أصواتهم لهما كمرشحَين رسمييَن عن الحزبين، فكانت النتيجة أن %89 من “الديمقراطيين” صوتوا لكلنتون، و88% من “الجمهوريين” أعطوا أصواتهم لترمب.

تقول كارول تافرس، خبيرة علم النفس الاجتماعي وصاحبة كتاب ’الأخطاء ارتُكبت، ولكن لم ارتكبها أنا‘، تقول: “إنه لمن المؤكد أن أعضاء حملة ’لا لترمب‘ لم يكونوا يشعرون بالارتياح لكونهم قد تحتمت عليهم معارضة مرشح حزبهم،  وهذا أكده وضوح علامات التنافر الإدراكي التي كانت تظهر عليهم، فقد شاهدناهم باهتمام خلال العام الذي سبق الانتخابات وهم يحاولون حل هذه المعضلة. بعض هؤلاء وجد حل المشكلة بمقارنة ترمب بكلنتون وتفضيله عليها، وآخرون صوتوا له لأنهم رأوا أن ترمب سيتخذ موقفاً “جمهوريا” من القضايا المهمة، وهذا كان كافياً لهم.

في مقالة كتبها ديفيد روبرتس لموقع ڤوكس ليحلل العوامل التي أدت لنجاح ترمب في الانتخابات الرئاسية، يقول: “إن الحزبية المستقلة عن الأعراف والحقائق أظهرت نفسها كقوة التأثير الكبرى في الحياة العامة (في الولايات المتحدة).” أشياء كتفاخر ترمب بالاعتداء الجنسي وتشجيعه على العنف في مسيراته الانتخابية واتهامه لأحد القضاة بالانحياز في اصدار الأحكام، أشياء كهذه لم تكلفه خسارة تأييد أعضاء حزبه له، حتى بعد اتهام بعضهم (جمهوريين وسياسيين آخرين) له بأنه ليس “محافظاً” أو “جمهورياً” حقيقياً! ولكن الواقع كان أنه، أي ترمب، المرشحَ عن الحزب “الجمهوري” بغض النظر عما كانوا يقولونه.

في أحد أقوى الأمثلة على تغيير الحزبية للواقع، كان مؤيدو ترمب يؤدون اختباراً عليهم فيه أن يختاروا بين صورتين إحداهما تظهر حشداً كبيرا والأخرى تظهر حشداً أصغر منه على أنهما حشدا تنصيب ترمب وأوباما رؤساءً للولايات المتحدة، ويُسألون: أيُّ الحشدين كان لتنصيب ترمب؟ فيختارون الحشد الأكبر، وعندما كان الباحثون يخبرون مؤديي ترمب أن الحشد الأكبر كان لأوباما وأن الأصغر لترمب، كان بعضهم يصر على أن الأكبر كان لترمب بغض النظر عن الأدلة التي تقول عكس ذلك.

ومع أن هذا قد يظهر كشكل من أشكال خداع الناس لأنفسهم، فمن المحتمل أيضا أن يكون الأمر مختلفا وأنهم لم يعنوا ما قالوه حقًا، وإنما قالوه كنوع من أنواع التضامن مع رئيسهم. في هذا الصدد، يقول بروفيسور الحقوق وعلم النفس دان كاهان: “لقد كانوا يعلمون ما الذي يحدث في ذاك المكان وأن أحدهم يحاول تشويه صورة ترمب ومؤيديه، فالسؤال بالنسبة لهم كان يسمع بصورة مختلفة: ’بصف من تقفون؟‘ فالناس في هذه المواقف المشحونة لا يتعاملون مع المعلومات على أنها معلومات، بل على أنها شيء يعكس هويتهم، فيصبح التعاطي مع المعلومات قبليًّا.

وفي مقالة النيويورك تايمز بعنوان “القصة الحقيقية خلف روايات الأخبارالزائفة هي الحزبية“، تقول أماندا تاب: “إن مشاركة الأخبار الكاذبة التي تهاجم المرشحين الآخرين هي طريقة لإظهار الدعم الشعبي للحزب الذي يؤيده الشخص أو ينتمي إليه – وهذا شبيه بتلوين مشجعي الفرق الرياضية وجوههم يوم المباراة بألوان الفريق الذي يشجعونه.”

هذه الطريقة القبلية في التعاطي مع المعلومات هي ليست نتيجة غباء أو إعاقة عقلية، فاقتناع الناس أو تشكيكهم بنظرية التطور لا دخل لهما بكونهم يفهمونها، إذ إن رفْضَ أحدهم للنظرية هو طريقة أخرى للإفصاح عن كونه متيدناً. وكذلك تظهر دراسة معهد بيو للأبحاث أن التحصيل العلمي العالي لكثير من “الجمهوريين” لم يجعلهم يخالفون توجهات حزبهم السياسية والاقتصادية أو يصدقون كل الحقائق العلمية التي تثبت أن الاحتباس الحراري يحدث فعلاً وأن هناك حاجة للتصدي له، على عكس “الديمقراطيين.”

أظهرت إحدى الدراسات أنّ ذكاء الأفراد أو اتساع معرفتهم (أو كليهما معا) يزيد المشكلة سوءًا، فكلما كان الشخص أذكى زادت قدرته على المرافعة والنقاش لدعم موقف يتفق معه ويؤمن به، وكلما اتسعت دائرة معارف الشخص زادت احتماليات وقوعه في فخ الاستدلال المدفوع لأن كمية المعلومات الكبيرة في حوزته تعطيه قدرة أكبر على بناء الأفكار والحجج المنطقية لاستخدامهما في نقاش غيره.

الناس يتعلمون بطريقة اختيارية وفهمهم للمعلومات التي تتماشى مع نظرتهم للعالم أقوى من فهمهم لما يتعارض معها من معلومات. التغطية الإخبارية قد تزيد من سوء مشكلة التعلم والفهم الانحيازييَن، فبينما تكون التغطية المكثفة لموضوع ما سبباً في زيادة وعي الناس به، تشير ورقة بحثية بعنوان “التحيز الإدراكي الحزبي وبيئة المعلومات” إلى أن التغطية الإخبارية ذات الطابع الحزبي تحفّز جمهورها على التعلم بطريقة اختيارية وانحيزاية.

 جينيفر جيرت، بروفيسور العلوم السياسة في جامعة ستوني بروك، إحدى كتّاب دراسة التحيز الإدراكي الحزبي، تقول: “قد يلاحظ الشخص تغطية إخبارية مكثفة عن حقيقة معينة أو حدث ما ولا يلاحظ معها ازديادًا في وعي الناس الذين لديهم حافز على الاختلاف مع تلك المعلومات، ونتائج بحثنا تشير إلى أن المتحزّبين بحاجة لمستويات لا اعتيادية من التغطية الإخبارية لدفعهم لأخذ معلومات تعارض توجهاتهم السياسية بعين الاعتبار.” فالـ”ديمقراطيون” في الولايات المتحدة، مثلاً، يؤيدون بشدة أيّ مقترح قانوني لمنع استخدام المركب العضوي “بيسفينول أ” في مواد التنظيف المنزلية على الرغم من أن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية وكثير من الباحثين قد وجدوا أن الكميات التي يحددها القانون الحالي كمياتٌ آمنة ولا تشكل خطرًا على المستهلكين، وهذا يدل على “كيموفوبيا” أو خوف غير مبرر من المواد الكيميائية عند “الليبراليين” في الولايات المتحدة، مع أن دراسة أسلف ذكرها قد أشارت لكونهم “علميّين” أكثر من نظرائهم “الجمهوريين”.

قد يكون التحقق من صحة التصريحات التي يدلي بها السياسيون غير فعال، إذ قد أظهر عمل نايهَن أن تصحيح مفاهيم الناس الخاطئة لا يعمل في أغلب الأحيان، والأسوأ من ذلك أنه قد يؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج عكسية، مما يجعلهم يتمسكون بتصوراتهم الخاطئة بشكل أقوى.

يقول جيريت: إن الباحثين استطاعوا مقاومة الاستدلال المدفوع خلال دراساتهم التجريبية عن طريق دفعهم للناس بصورة واضحة ليكونوا دقيقين في أجوبتهم، ولكن ترجمة هذا السلوك للعالم الحقيقي مهمة مبهمة لأن الآراء السياسية الخاطئة للناس عادة ما تكون متعلقة بأشياء لا تؤثر على حياة الناس اليومية بشكل مباشر، ولا تدفعهم للتعامل معها بدقة.

يقول كيهن: “ليس لدى أكثر الناس سبب وجيه وراء مفاهيمهم الخاطئة حول الاحتباس الحراري عدا عن استخدام الظاهرة ليعبّروا عن هويتهم، فلا تأثير لهم أو لسلوكهم الشخصي على نتائج سياسات هذ الحزب أو ذاك، و الناس يرون المواقف من هذه القضايا المهمة على أنها شارة عضوية في هذه المجموعات.”

في عام 2016، اختارت معاجم أكسفورد مصطلح “ما بعد الحقيقة” ككلمة العام، والتي تم تعريفها بأنها “ما يتعلق أو يشير إلى ظروف تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من النداءات العاطفية والاعتقاد الشخصي.”

لقد كان عام 2016 عاما كذب فيه مرشح الولايات المتحدة الرئاسي الفائز ’دونلد ترمب‘ بشكل مستمر في حملته الانتخابية، عاماً كثرت فيه العناوين والروايات الإخبارية الكاذبة، عاماً غمس الناس فيه أنفسهم في شبكات التواصل الاجتماعي التي كانت تخبرهم بما يودّون سماعه فقط. الـ”حقائق” التي تصدر عن أروقة المتاهات الحزبية تسببت باتهام “الديمقراطيين” و”الجمهوريين” على حد سواء بكونهم يعيشون خارج عالمنا في فقاعات أو غرف صدى، أو حتى في عالم موازٍ.

كتاب فرهد مانجو، “حقيقيّ بما فيه الكفاية: تعلّمُ الحياة في مجتمعات ما بعد الحقائق“، الصادر عام 2008، قد يخّيل لقارئه أنه قد صدر في الأمس لشدة ملامسته واقع اليوم وحديثه عن تفتت الإعلام، وسيطرة المعتقدات على الحقائق، وكيف أن الحقائق الموضوعية قد تجعل الناس أحيانا يشكّون بمصداقيتها.

يقول مانجو، الذي يعمل حالياً ككاتب في صحيفة النيويورك تايمز، يقول: “لم أكن واثقاً بواقعية الفكرة عندما صدر الكتاب، وإحدى الأفكار الفرعية كانت تشرح كيفية عدم وجود عقوبة للكذب في السياسة.” كان يتم تداول الكثير من الأكاذيب في الإعلام حول المرشح الرئاسي، آنذاك، باراك أوباما ككونه مسلما أو مولودا خارج الولايات المحدة، وهذه الأكاذيب لم تنجح في إفشال حملته. يقول أيضا: “كان أوباما ’عقلانيا‘ يؤمن بالعلم، ولكنه فاز على الرغم من أنه كان هدفا لهذه الادعاءات الباطلة. بدأ الأمر حينها كانتصار للحقيقة، ولكن الواقع الآن يقول عكس ذلك.”

تعريف ← سياسة تجاوز الحقائق: ثقافة سياسية تتسم بأن الجدال فيها يكون بالتوسّل بالعواطف منفصلا عن تفاصيل السياسات، كما يتّسم بتكرار بعض نقاط الحوار بتجاهل الحقائق التي تُفنِّدها.

كان ’تجاوز الحقائق‘ منتشراً بكثرة خلال فترة حكم الرئيس أوباما، والإشاعات الكاذبة التي أحاطت به، كقضية مولده وقضية التأمين المتعلقة بقانون الرعاية الصحية الأمريكي.

يقول مانجو: “بدأت أشعر بأن فكرتي كانت على الأرجح أضخم مما توقعت، ثم أتت انتخابات عام 2016 لتؤكد أسوأ مخاوفي.”

يشير نايهن إلى أن “مشكلة لغة ’تجاوز الحقائق‘ و’ما بعد الحقيقة‘ أنها توحي لسامعها أنه قد كان في الماضي عصر ذهبي كانت السياسة فيه تستند إلى الحقائق والمعلومات المؤكدة.”

لطالما كان الناس قبليّين في تعاملهم مع المعلومات، ولطالما صدقوا أشياءا غير صحيحة، فهل اللحظة التي نعيشها مختلفة جدا؟ أم أن قضايا عصرنا أهم من قضايا الماضي؟

لقد ازدادت الحزبية بالتأكيد، ولكن الأمريكيين كانوا حزبيّين من قبل لدرجةٍ أدت بهم للحرب الأهلية. إن البيئة الإعلامية اليوم (في الولايات المتحدة) فريدة من نوعها بالتأكيد، على الرغم من أنها تتبع بعض الأنماط الكلاسيكية. فمع أن الحزبية في أعلى مستوياتها تاريخياً، إلا أنها ليست المرة الأولى التي نرى فيها منشورات حزبية، أو الكثير من منابر الإعلام المتنافسة، أو حتى صوامع معلومات (مجموعة معلومات معزولة عن غيرها بشكل اخياري، أو بسبب عوامل قد تكون خارجة عن الإرادة). غالبًا ما يشعر الناس باليأس من فقدان النموذج الإعلامي لمنتصف القرن العشرين، عندما كانت بعض الصحف والقنوات التلفزيونية تزود الناس بالأخبار الحيادية، ولكن الصحف في القرن التاسع عشر كانت معروفة أيضا بتنافسها على جذب الأنظار بالعناوين المثيرة، وفي وقت الآباء المؤسسين (للولايات المتحدة)، كانت الصحف “الفدرالية” و”الجمهوريّة” توجه انتقادات لبعضها البعض باستمرار.

في الأوقات التي لم يكن فيها التواصل سهلاً كما هو الآن، كانت الأخبار محلية أكثر. يمكن القول إن الناس كانوا في صوامع معلومات محدودة جغرافيا، وكان “الإعلام السائد”، حينذاك، شذوذا عن المألوف.

إن الوضع الآن هو بمثابة عودة إلى الأيام القديمة السيئة التي امتازت بالتحيز والمنافسة وصوامع المعلومات. يقول مانجو: “إن الوضع الآن أسوأ من الماضي بكثير. ليس المشكلة أن الناس تقرأ الأخبار التي تؤكد معتقداتهم فقط، بل ويقومون بمشاركتها (رقمياً) وإخبار الآخرين عنها، وهذا يشبِه ’العدوى‘ في مفعوله، فتعليق الصديق على رواية الأخبار قد يكون أكثر أهمية من الرواية نفسها بالنسبة للمستمع”. هذه الصوامع لم تعد محدودة جغرافياً وحسب، بل أصبحت أيديولوجيةً أيضا! مما يجعل المعلومات أقل تنوعا. أفادت دراسة حديثة، في الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي تضمنت تحليل 376 مليون تفاعل من مستخدمي موقع فيسبوك مع 900 موقع إخباري، أفادت أن “التعرض الانتقائي المتحيز للمعلومات هو أحد الأشياء التي تحفز ’الاستهلاك الإعلامي‘.”

لا يتفق الجميع على وجود هذه الصوامع، ودان كاهان أشار إلى أنه غير مقتنع بوجودها، فيقول: “أظن أن الناس يفضّلون مصادر المعلومات التي تدعم مواقفهم وتؤكد آراءهم. هذا لا يعني أنهم معزولون تماما عن المعلومات الأخرى”، ولكنهم يصرفون النظر عنها إذا صادفوها.

إن الحجم الهائل لشبكة المعلومات ’الإنترنت‘ يسمح لأيّ كان أن يبحث ويجد أدلة تؤكد أي ادعاء أو افتراض يريد تصديقه، بغض النظر عن صحة وقوة تلك الأدلة. ولأن الناس لم يتطوروا بشكل يسمح لهم للعمل وسط هذا الكم الهائل من الناس والمعلومات، فإن الناس قد يهيأ لهم أحياناً أن بعض الأفكار أكثر انتشارًا عمّا هي عليه في الحقيقة، حسب باسكال بوير.

“عندما كنت أقوم بعمل ميداني في قرىً صغيرة في أفريقيا، رأيت أمثلة لأناس يملكون معتقدات غريبة. فبعضهم مثلاً يظن أنه إذا تلى تعويذة فيمكنه أن يخفي جسماً صغيراً. كان الحاضرون يضحكون ويخبرونهم أن ما يقومون به غبيّ، وهذا كان كل ما يتطلبه الأمر ليختفي ذاك الإعتقاد.”

كلمّا كبرت الجماعة زادت احتماليات أن يجد الشخص أحدا يشترك معه في معتقده، وإذا كانت الجماعة تضم كل شخص يملك اشتراك ’إنترنت‘ ويتحدث اللغة ذاتها، فعندها تتضاعف احتماليات أن يصطدم أصحاب المعتقدات الخاطئة والغريبة ببعض البعض.

يقول بوير: “إذا صادفت عشرة أشخاص يبدو أنهم يمتلكون الفكرة ذاتها تقريباً، عندها قد يخيّل إليك أنها قد تكون فكرة ذات مصداقية لأن ’الكثير‘ يؤمنون بها. الشيء الذي قد يعتقده الإنسان، دون وعي، أن هؤلاء العشرة وصلوا لنفس المعتقد باستقلالية عن بعضهم البعض، بينما قد يكون تسعة منهم يرددون ما قاله العاشر فقط.”

أحد أجزاء المشكلة هو أن المجتمع وصل نقطة أصبح فيها الإيمان بالشيء الحقيقي قد يعني قبول أشياء لا يفهمونها ولا خبرة لهم بها، وقد يعني أن الناس عليهم أن يكذّبوا أحاسيسهم أيضاً، فالشخص لا يشعر أن الأرض تتحرك، ولا يمكنه أن يرى ’الاحتباس الحراري‘ من نافذة بيته.

على الإنسان أن يعتمد على الثقة عندما لا يمتلك الخبرة والمعرفة الكافيتين. حتى كليفرد، الذي اتهم من يصدق الشيء من دون دليل عليه، يعترف بهذا، فيقول: “إنه لمن المقبول أن تصدق ما يخبره بك أحدهم عندما يكون هناك مؤشر واضح على أنه يفقه الشيء الذي يتحدث عنه.”

المشكلة هنا أن ’القبلية الفكرية‘ تتحكم بمن وبما يثق به الناس. الاحتكام للخبراء قد يكون خطوة جيدة، ولكن كاهان وجد أن الناس ينظرون للخبراء الذين يتفقون معهم على أنهم أكثر صدقًا وشرعيةً من غيرهم.

لم يعد الناس في الولايات المتحدة يثقون ببعضهم البعض كما كانوا سابقاً. المسح الاجتماعي العام في الولايات المتحدة يتم إجراؤه سنوياً منذ 1972. واحد من الأسئلة يقول: “بشكل عام، هل تظن أن أغلب الناس يمكن الوثوق بهم؟ أم أن الشخص يجب أن يكون حذراً في التعامل مع الناس على الدوام؟”  تظهر البيانات بين عاميّ ال1972 و2014 أن عدد الناس الذين يقولون أن بإمكانهم الوضوق بالآخرين قد وصل تدنيّاً تاريخياً.

نسبة الأمريكيين الذين يقولون إن أغلب الناس يمكن الوثوق بهم بين عامي 1974 و2014

في المقابل، نجد أن هنالك نسبة أعلى للثقة المخصصة، أي الثقة بين أفراد المجموعة الواحدة. يقول مانجو في كاتبه: “الثقة المخّصصة تقضي على الثقة العامة. فكلما كانت ثقة الناس بأشباههم أو بمحيطهم أكبر من ثقتهم بالمغايرين، كلما زاد ارتيابهم من أي شيء أو شخص غريب عنهم.”

يشير إرِك يوإسلينر، بروفيسور العلوم الحكومية والسياسية في كلية بارك في جامعة ميريلاند، يشير إلى أن الثقة المخصصة تغذي وتشحن القبلية الفكرية، فيقول: “الذين يثقون بشكل ’مخصّص‘ أكثر عرضة للانخراط بجماعات تضم من يشبهونهم، وأكثر عرضة للابتعاد عن أي عمل يتضمن التعامل مع أناس مغايرين لهم في المبادئ.”

نفهم من هذا أن الذين يسجلون نتيجة أعلى في مقياس ’الثقة المخصّصة‘ أكثر عرضة لتصديق ما يصدر عن أعضاء مجموعاتهم، وإذا كانت هذه المجموعات ذات طابع أيديولوجيّ، فغالب الظن أن الذين ينشرون هذه المعلومات يؤمنون بها كذلك.

هذا يفسّر عدم ثقة الناس بالإعلام. فمع أن بعض روايات الأخبار قد تكون حيادية جداً، فإن الناس قد يرون أكثر الروايات حيادية على أنها انحيازية لأنها لا تؤكد على ما يرونه صحيحاً بشكل كامل. يقول مانجو: إن الجميع يظنون أن جهتهم تملك أفضل الأدلة. فبنظرهم، إذا كانت المقالة موضوعية بحق، فإنها كانت لتؤكد على ما يقولونه هم فقط.

هكذا كان يتصرف ترمب مع الإعلام والإعلاميين، فيصف أي تغطية إخبارية عنه بأنها “ليست عادلة” و”أخبار كاذبة” حتى لو كانت صحيحة مئة بالمئة. في المقابل، فإن وكالات الإعلام المنحازة له كانت تحظى بمديحه على الدوام، بل وكان يدعوهم للبيت الأبيض (هذا يمثل انقلاباً لحال وكالة ’فوكس نيوز‘ التي لم تعترف بها إدارة أوباما كوكالة إخبارية في عام 2009). قد يبدو ترمب وكأنه أسوأ ما يمكن للثقة المخصّصة أن تصله، ولكن الكثير من أصحاب العقليات الشبيهة بعقليته معرضون للوقوع بهذا الفخ. الموضوعية معركة شجاعة، ولكنها خاسرة أحياناً.

الحقائق البديلة” هي عبارة كانت، وستظل، ذات صورة سيئة. أشهر استخدام لها قد يكون عندما استعانت مستشارة ترمب، كيلي آن كونواي، بها لوصف السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، شون سبايسر، الذي قال: إن تنصيب ترمب كان قد جذب “أكبر جمهور يُشهد على الإطلاق، نقطة، انتهى!” سبايسر كان قد قال للمراسلين أيضاً: “أطن أن بإمكاننا أن نعارض ونختلف مع الحقائق.”

كانت هذه بعض من التصريحات التي أظهرت عدم احترام هذه الإدارة للـ”حقيقة”. هذا النوع من التجاهل الوقح للواقع الموضوعي هو أمر يبعث على القلق العميق، ولكن هذا التجاهل يفضح شيئا لطالما كان حقيقيًا، وهو أننا عندما نتجادل حول الحقائق، فإننا لا نتجادل حول الحقائق على الإطلاق، بل حول شيء آخر تماما.

التجربة التي سُئل فيها مؤيدو ترمب عن صور التنصيب الرئاسي هي مثال على ذلك. يقترح نايهن في بحث حول المفاهيم السياسية الخاطئة مثالاً آخر: الدراسة الاستقصائية للبحث كانت تسأل الناس عن كونهم يتفقون أو يختلفون مع العبارة (الخاطئة) التي تقول: “إن معدل جرائم القتل في الولايات المتحدة هو الأعلى منذ 45 عاما”، وهي التي ردّدها ترمب كثيرا في مسار حملته الانتخباية. يقول نايهن: “لأن الادعاء باطل، فإن الرد المناسب سيكون “لا أتفق”، ولكن ماذا يعني أن يتفق الشخص أو لا يتفق؟ يصبح من غير الواضح ما إذا كان الشخص يعتقد حقا أن العبارة صحيحة أو ما إذا كان يستخدمها كاختصار للتعبير عن شيء آخر _كدعمه لترمب_ بغض النظر عن صحة ادعاءاته، أو ليعبر عن شعور بعدم الأمان من الجريمة. مسألة صحة العبارة بالنسبة للوكالات الإخبارية هي مسألة تحقق من صدق الرئيس، ولكنها قد لا تكون كذلك بالنسبة للمواطن العادي.

“في بعض الأحيان عندما نتجادل حول الحقائق، نكون لا نتجادل حول الحقائق على الإطلاق.”

يقول كاهان: إن هذه الخلافات عادة ما تكون حول القيم وحول نوع المجتمع الذي يطمح إليه الناس، وبالتالي حول الحزب أو السياسي الذي يسعى نحو مجتمع مماثل. “حتى لو صححت لهم معلومة غير دقيقة فإن هذا لن يغير في موقفهم شيئا، فهذه المعلومة لم تكن سبب تأييدهم له (أي ترمب) في المقام الأول.”

إذن، مالذي قد يجعل شخصا ما يغير موقفه بشأن معتقد خاطئ مرتبط بهويته بشدة؟ يقول تافرس: “لا شيء على الأرجح، وأنا أعني ذلك بجدية.” طبعاً، هنالك مجالات يمكن للحقائق فيها أن تحدث تغييرا، فهنالك أناس مخدوعين أو مدفوعين ليؤمنوا بشيء خاطئ من دون وعي منهم بذلك.

يقول ماكنتاير: “شخصيًا، نظريتي هي أنه ثمة انزلاقٌ يحدث دائماً. لهذا يجب علينا أن نعلّم التفكير النقدي، ولهذا يجب علينا أن نحارب المعتقدات الخاطئة، فهناك البعض ممن لا تزال استعادتهم ممكنة، الذين لم ينزلقوا تماماً نحو النكران حتى الآن. أظن أن الشخص بمجرد أن يصل مرحلة النكران فهو قد رحل بلا رجعة.”

هنالك أشياء بسيطة قد تساعد، إحدى الدراسات الحديثة تشير إلى أن الناس يمكن “تلقيحهم” ضد المعلومات الخاطئة والتضليل. ففي الدراسة مثلاً، توجد رسالة عن الإجماع العلمي الكبير على ’الاحتباس الحراري‘ وتضمنت تحذيرا يقول أن “بعض الجماعات المدفوعة سياسياً تستخدم طرقا تضليلية لإقناع الناس بوجود تضادّ أو شرخ كبير بين العلماء”. تعريض الناس لحقيقة أن هذه المعلومات المضللة موجودة كفيل بجعلهم حذرين في التعامل معها إذا صادفتهم فيما بعد، وهذا قد نجح تجريبياً في الدراسة التي أجريت.

على الرغم من استحالة إزالة النزعات القبلية من عقول كل الناس، فإن تعكير مياه الحزبية يمكن أن يجعل الناس أكثر انفتاحا لتغيير آرائهم. يقول جيرِت: “نحن نعلم أن الناس يصبحون ألقل تحيّزا إذا رأوا أن سياسة ما مدعومة من سياسيين ذوي خلفيات حزبية مختلفة. لا يبدو أن هذا مرجح الحدوث في هذه الفترة، ولكنه لمن الجيد أن يرى الناس اختلافاً وتنوعاً في الآراء في داخل الحزب الواحد. وإنه لمن الجيد أيضا حدوث أي شيئ يعكر صفو هذا النمط الذي يوحي بأن كلا الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) عبارة عن مجموعة متجانسة من الأشخاص، وثمة دليل على أن الاستدلال المدفوع تقل حدته في هذه الأحداث.”

من الممكن أيضًا تخيل بيئة إعلامية تكون أقل ملاءمة للأخبار الكاذبة والتعرض الانتقائي من بيئتنا الحالية التي تعتمد بشكل كبير على شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بالناس.

سَألتُ مانجو عن الشكل الذي يمكن تخيله لبيئة إعلامية تحوي قدرا أقل من الأخبار الكاذبة، فقال: “أظن أن علينا أن نخلق بيئة معلوماتية تكون مشاركة المعلومات فيها تتم بصورة أبطأ. تطبيق “سنابشات” مثال جيد على هذا، فكل شيء يختفي منه تلقائياً بعد يوم واحد فقط، فلا يمكن أن نرى أمرًا ما عالقاً في الشبكة ويكبر كل يوم أكثر فأكثر.

يبدو أن القائمين على “فيسبوك” مهتمون بنسخ بعض ميزات “سنابشات”، بما في ذلك الرسائل التي تختفي بعد فترة من ارسالها. يقول مانجو: “أظن أن هذا سيقلل من سرعة انتشار المعلومات والأخبار، وعندها يمكننا أن نتخيل أن هذا سيقلل انتشار المعلومات الكاذبة، ولكنه يحذر من أن “الأوضاع قد تكون سيئة جداً إذا كنت تبحث في “سنابشات” عن أسباب للأمل (لأنها تختفي تلقائياً بعد مدة).

الجزء الأكبر من الصورة التي يأخذها الناس عن العالم لا علاقة لها بالحقائق. هذا لا يعني أن الحقيقة في خطر، ولا حتى أن الناس لا يمكنهم تغيير رأيهم إن أرادوا. ولكن ما يشير إليه كل هذا هو أنه بغض النظر عن قوة الأدلة، فإنه ثمة احتمالية بسيطة أنها ستغير رأي أحد إذا لم يرد هو تصديق تلك الأدلة والاقتناع بها. يجب على الناس تغيير أنفسهم.

كما وضحنا سابقاً، فإن دانيَل شو قد غادر سيدا يوغا في نهاية المطاف، ولكن بعد وقت طويل. يقول شو: “قبل صدور ذلك العدد من صحيفة النيو يورك تايمز، كنت قد بدأت معرفة ما كان سيتم كتابته في ذلك العدد، واللحظة التي سمعت فيها ذلك كانت اللحظة التي تركت الجماعةَ فيها لأن جميع ما كنت أتوقعه من قبل كان قد أتى سوياً في تلك اللحظة. ولكن هذا احتاج خمس سنين من الشك وعدم الراحة اللذين لم أرِد أن أشعر بهما أو أواجههما.

يبدو أن الناس إذا أرادوا أن يكونوا منفتحين، فإن ذلك غالباً سيحصل بين أفراد المجموعة الواحدة. أشار مانجو في كتابه إلى أن حكومة الولايات المتحدة، إبان الحرب العالمية الثانية، كانت تحاول أن تجعل الناس يأكلون أحشاء الذبائح (ليتركوا الأجزاء الجيدة للجنود)، فإن الباحثين وجدوا أن احتمالية أن تتناقش ربات المنازل في هذا الموضوع ليقرروا طبخ أحشاء الذبائح (من غير أن يحاول أحد إقناعهم بذلك) كانت خمس أَضعاف احتمالية أن يفعلوا ذلك بسبب سماعهم نصائح أخصائيي التغذية. فالمجموعات عادة ما تكون أفضل من الأفراد في الإجابة على الأسئلة الاستدلالية (المنطقية).

من الطبيعي أن تتضائل حكمة المجموعة، ككل، إذا كان جميع أعضائها يتفقون مع بعضهم البعض.

يقول ماكنتاير: “إحدى إيجابيات الاستنتاج الجماعي هي إمكانية الحصول على ملاحظات نقدية، أمّا إذا كنت في صومعة، فإنك لا تحصل على النقد، بل ستحصل فقط على التصفيق.”

يقول شو: “إذا كانت هذه التغييرات ستحصل يوما ما، فمن الأفضل أن تحصل على المستوى الشخصي.”

يخبرني شو عن “أحد مرضاه، والذي ترتبط عائلته بجماعة مسيحية متطرفة. لقد استنتج المريض مشاكل كثيرة في تلك العقيدة، لكنه يحافظ على علاقة وطيدة بأهله ويناقشهم بمحبة ولطف. إنه صبور وعنيد ويعمل بالتدريج، ويمكنه أن ينجح في النهاية. ولكن هل ستجلس عائلته للاستماع عن نشرة إخبارية لتخبرهم بأنهم على خطأ؟ لا اعتقد ذلك.”

ولكن عندما يقوم أحد بتغيير رأيه بحق، فإن الأمر سيكون أشبه بالزحف البطيء لخيبة أمل “دانيَل شو” مع الغورو. لقد غادر دانيَل “كما يغادر أغلب الناس: وكأنهم يتقطعون لألف قطعة.”