شعار قسم ميدان

العصر النووي الجديد.. لماذا تتسابق أميركا وروسيا والصين على تحديث ترساناتها النووية؟

هناك سباق تسلح نووي جديد يلوح في الأفق، وسيكون إيقافه أصعب من إيقاف صراع الحرب الباردة (مصدر الصورة: شترستوك)

منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره بوضع القوات النووية لبلاده في "حالة تأهب قصوى" (1)، وبعد عام تقريبا، تحديدا في فبراير/شباط 2023، أعلنت روسيا تعليق مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" مع الولايات المتحدة للحد من الأسلحة النووية، وهي المعاهدة المنوطة بالحد من عدد الرؤوس النووية الإستراتيجية التي يمكن للبلدين نشرها، ما فتح الباب أمام سباق تسلح نووي جديد وغير مقيد انخرطت فيه كلٌّ من موسكو وواشنطن ومعهما بكين.

منع انتشار الأسلحة النووية

تتطلب معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية لعام 1968 من الدول التي تمتلك الأسلحة النووية "مواصلة المفاوضات، بحُسن نية، بشأن التدابير الفعالة المتعلقة بوقف سباق التسلح النووي في وقت مبكر ونزع السلاح النووي". (2) ويُقدّر محللو الأسلحة النووية أن الدول النووية التسع في العالم، وهي: الصين، وفرنسا، والهند، وإسرائيل، وكوريا الشمالية، وباكستان، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، تمتلك في المجمل نحو 13 ألف رأس حربي نووي. ومع ذلك، يستند هذا التقدير فقط إلى المعلومات المتاحة للجمهور، ومن الممكن أن يكون هناك الكثير من البيانات أو الحقائق الأخرى التي لم يُكشَف عنها.

يقع أكثر من 90% من هذا المخزون النووي العالمي في حوزة دولتين فقط هما أميركا وروسيا. في فجر العصر النووي، كانت الولايات المتحدة تأمل في الحفاظ على احتكارها لسلاحها الجديد، لكن الأسرار والتكنولوجيا اللازمة لبناء القنبلة الذرية سرعان ما انتشرت. أجرت الولايات المتحدة أول تفجير نووي تجريبي لها في يوليو/تموز عام 1945، وأسقطت قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي باليابان في أغسطس/آب من العام نفسه، وبعد أربع سنوات فقط، عام 1949، أجرى الاتحاد السوفيتي أول تفجير تجريبي نووي له.

تبع ذلك المملكة المتحدة عام 1952، ثم فرنسا عام 1960، والصين عام 1964. حينها، تفاوضت الولايات المتحدة وغيرها من البلدان، سعيا لمنع انتشار الأسلحة النووية بشكل أكبر، على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT) عام 1968، ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) عام 1996. لم توقِّع الهند وباكستان ودولة الاحتلال الإسرائيلي على معاهدة حظر الانتشار النووي قط، رغم أنها تمتلك ترسانات نووية.

في الوقت الذي أُبرمت فيه معاهدة حظر الانتشار النووي، كان المخزون النووي لدى كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي/روسيا يبلغ عشرات الآلاف من الرؤوس. ابتداء من سبعينيات القرن العشرين، تفاوض القادة الأميركيون والروس على سلسلة من الاتفاقيات والمبادرات الثنائية للحدّ من الأسلحة النووية، وهو ما ساهم لاحقا في تقليل حجم الترسانات النووية للدولتين. (3)

ومنذ نهاية الحرب الباردة، خفضت كلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا ترسانتيهما النوويتين، وأصبحت مخزوناتهما النووية أقل بكثير مما كانت عليه. ذكرت وكالة أنباء الأمن الداخلي أن الولايات المتحدة كانت تمتلك عام 1967 نحو 31225 سلاحا نوويا. في وقت انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، كان هناك نحو 35 ألف سلاح نووي متمركز في آلاف المواقع عبر مساحة شاسعة من اليابسة الأوراسية التي امتدت عبر إحدى عشرة منطقة زمنية.

اليوم، تقول روسيا إن لديها 6257 رأسا حربيا نوويا، بينما تعترف الولايات المتحدة بامتلاكها 5550 رأسا، وفقا لوثيقة حقائق صدرت في يناير/كانون الثاني الماضي عن جمعية الحدّ من الأسلحة. توضح سارة ميدي جونز، الناشطة في حملة نزع السلاح النووي، لموقع "Live Science" أن هذا التخفيض الجذري يعود أساسا إلى تفكيك الدولتين للرؤوس الحربية غير المُحدثة.

لكن في مقابل تعهدات التخفيض المعلنة للقوى النووية، يقدر مات كوردا، وهو مدير مشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأميركيين، والباحث المشارك في معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، أن الصين والهند وكوريا الشمالية وباكستان والمملكة المتحدة، وكذلك روسيا على الأغلب، جميعها تزيد من عدد الأسلحة النووية في مخزوناتها العسكرية. (1)

تلاشي مفهوم الردع

يكمن الغرض الرئيسي من تكديس الدول للأسلحة النووية في تحقيق ما يسمى بـ"الردع النووي" وهي فكرة مفادها أن امتلاك الأسلحة النووية يحمي الدولة من هجوم نووي محتمل من خصومها، من خلال التهديد بانتقام نووي مماثل. لكن غزو روسيا لأوكرانيا يوضح سلبيات هذا المفهوم، فالرئيس الروسي هنا لم يستخدم الردع النووي لحماية أراضي روسيا، بل استخدمه لتحقيق مراده في أوكرانيا، لردع الغرب عن التدخل بالقوات العسكرية التقليدية للدفاع عنها. (2)

هذه ليست المرة الأولى التي يلوح فيها بوتين باستخدام السلاح النووي، فقد فعل ذلك سابقا عام 2014 أثناء الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم، حينها تحدث القادة الروس علنا عن وضع الأسلحة النووية في حالة تأهب، لكن هذه المرة يريد بوتين بوضوح أن تدرك الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أنه إذا تدخل الغرب بالقوة العسكرية نيابة عن أوكرانيا، فقد يلجأ إلى استخدام ما يسمى بأسلحته النووية التكتيكية.

في عالم الأسلحة النووية يشير مصطلح "التكتيكية" إلى الأسلحة النووية الأصغر حجما، والاستهداف الأكثر دقة، ما يعني إمكانية استخدام الأسلحة النووية في أرض المعركة لاستهداف مناطق صغيرة لا المدن بأكملها مثلا، وبالتبعية يصبح استخدامها أكثر قابلية للتفكير لأنها لا تعني تدميرا شاملا.

لكن الكارثة هنا أن الانفجار النووي مهما كان حجمه له قوة تدميرية هائلة. وحتى السلاح النووي ذو القوة الصغيرة، التي تبلغ 0.3 كيلوطن، من شأنه أن يُحدث أضرارا تتجاوز بكثير الأضرار التي تُحدثها المتفجرات التقليدية. في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب في 6 فبراير/شباط 2018، قال وزير الدفاع الأميركي آنذاك جيمس ماتيس: "لا أعتقد أن هناك أي شيء اسمه سلاح نووي تكتيكي. إن استخدام أي سلاح نووي في أي وقت سيغير قواعد اللعبة الإستراتيجية. وقد أوضح القادة الروس أنهم سوف ينظرون إلى أي هجوم نووي باعتباره بداية لحرب نووية شاملة". (3)

سباق نووي جديد

كان فكرة الردع المتبادل هي التي قامت عليها الجهود العالمية لتقليص الأسلحة النووية، ويهدد تلاشي مفهوم الردع بإشعال سباق جديد للتسلح النووي. في هذا السياق، وفي 21 فبراير/شباط من العام الجاري، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تعليق بلاده مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" لعام 2010، وهي آخر اتفاقية متبقية مع الولايات المتحدة للسيطرة على الأسلحة النووية، التي تقيد كل جانب بما لا يزيد على 1550 رأسا نوويا إستراتيجيا و700 صاروخ طويل المدى وقاذفات قنابل وتخفيض عدد منصات الإطلاق والقاذفات الثقيلة إلى 800 قطعة. (4)

جرى تمديد "نيو ستارت" لآخر مرة في يناير/كانون الثاني من عام 2021 لمدة خمس سنوات تنتهي عام 2026، ويعني تعليق روسيا للمعاهدة أنها لن تُصدر بيانات نصف سنوية حول عمليات نشر الرؤوس الحربية، كما أنها لن تسمح بإجراء عمليات تفتيش عشوائية متبادلة في مواقع الصواريخ والقاذفات المطلوبة بموجب المعاهدة. (5) ردا على قرار روسيا، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات مضادة تحدّ من تبادل المعلومات وعمليات التفتيش المُلزمة لها. ومع ذلك، التزمت كلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا بالقيود المركزية للمعاهدة بشأن نشر الأسلحة الإستراتيجية حتى عام 2026. (3)

يُشير قرار بوتين بتعليق مشاركة روسيا في معاهدة "نيو ستارت" إلى أنه، على الأرجح، بعد انتهاء صلاحية المعاهدة في عام 2026، ولأول مرة منذ عام 1972، لن يكون هناك اتفاق يحدّ من الترسانات النووية الإستراتيجية للولايات المتحدة وروسيا. بدون مثل هذه القيود، تستطيع روسيا والولايات المتحدة في غضون عامين مضاعفة رؤوسهما الحربية الإستراتيجية المنشورة إلى 3000 أو أكثر من خلال تحميل رؤوس حربية إضافية على صواريخهم البرية والبحرية. بالإضافة إلى التعقيد الإضافي المتمثل في أن الصين تعمل بالفعل على بناء ترسانتها، قد يؤدي هذا إلى سباق تسلح نووي ثلاثي يَعِدُ فقط بالمزيد من عدم الاستقرار.

كان لمعاهدات الحدّ من الأسلحة النووية تأثير إيجابي كبير في الحدّ من مخاطر النووي في نهاية الحرب الباردة، لكن هذه المعاهدات تتفكك الآن مهددة بإدخال العالم في عصر جديد مُلبَّد بالغيوم. فقبل تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت"، كُتبت شهادة وفاة معاهدة القوى النووية متوسطة المدى لعام 1987، وهي أول معاهدة تقضي على فئة كاملة من الصواريخ المسلحة نوويا هي الصواريخ متوسطة المدى (بين 500 إلى 5500 كم)، وذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة منها عام 2019 خلال عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بسبب الزعم بوجود انتهاكات روسية. (6)

قبل ذلك بعقدين تقريبا، في عام 2002، انسحب الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، التي حدّت من الدفاعات المضادة للصواريخ، وقد أشار حينها إلى أنه يفعل هذا بسبب المخاطر المتزايدة التي تُشكِّلها كوريا الشمالية وإيران. (7) وفي السياق ذاته يأتي تعليق "نيو ستارت"، بالإضافة إلى خطوة عملية أخرى قامت بها روسيا، تمثلت في توقيع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ووزير الدفاع البيلاروسي فيكتور خرينين في 25 مايو/أيار من العام الجاري على اتفاق رسمي يمهد الطريق أمام روسيا لنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، وهي أسلحة نووية قصيرة المدى مثل القذائف المدفعية والقنابل والصواريخ المستخدمة في العمليات الميدانية، ويُمثل هذا الاتفاق خطوة عملية جديدة للتهديد بالسلاح النووي من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. من ناحية أخرى، تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 100 سلاح نووي تكتيكي في ست قواعد في خمس دول تابعة لحلف شمال الأطلسي.

قبل هذا الاتفاق بين روسيا وبيلاروسيا بنحو ثلاثين عاما، كانت بيلاروسيا قد انضمت إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وأعلنت عزمها على التحول إلى دولة غير نووية. وبحلول مايو/أيار عام 1993، نقلت مينسك إلى روسيا الأسلحة النووية التكتيكية الموروثة من الاتحاد السوفيتي. تُعَدُّ عمليات النشر الجديدة للأسلحة النووية في بيلاروسيا قفزة هائلة إلى الخلف، تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. ومع قيام روسيا بنشر أسلحة نووية تكتيكية على الأراضي البيلاروسية، قد يؤدي ذلك إلى إدخال بيلاروسيا في صراع نووي، سواء بوصفها نقطة انطلاق أو هدفا انتقاميا محتملا.

يؤكد ما سبق تقرير نُشر عبر مجلة "الإيكونوميست" البريطانية، يُشير إلى أن هناك سباق تسلح نووي جديد يلوح في الأفق، وسيكون إيقافه أصعب من إيقاف صراع الحرب الباردة، لأسباب عديدة منها تعقيد "الردع" الثلاثي الذي ينطوي على الصين الصاعدة، بجانب أميركا وروسيا، وهو ما يعني أننا مقبلون على مشهد نووي مختلف تماما عن ذلك الذي عرفناه في العقود الماضية. (7)

__________________________________

المصادر:

  • 1- How Many Nuclear Weapons Exist, and Who Has Them?
  • 2- Limited’ Tactical Nuclear Weapons Would Be Catastrophic
  • 3- Nuclear Weapons: Who Has What at a Glance
  • 4- We Must Prevent a New Nuclear Arms Race
  • 5- بعد قرار بوتين.. ماذا يعني تعليق روسيا لمعاهدة "نيو ستارت"؟
  • 6- Nuclear dangers are rising once more
  • 7- A new nuclear arms race looms
المصدر : الجزيرة