البيئويّة في خرافة وأدب فلسطين

مدينة القدس | Getty Images

 

في مقابلة أذيعت بعد أيّام من وفاة محمود درويش، سُئِل الشاعر إن كان الحضور الأنثويّ في قصيدة له يرمز إلى الأرض الفلسطينيّة. أجابه درويش أنّه أحيانًا يكون الكيان المؤنّث في شعره إشارة إلى أرض فلسطين، لكن في أحيان أخرى يكون المقصود به، ببساطة، المرأة. إلّا أنّه ليس من البعيد، لو وُضِعنا في مكان مَنْ حاور الشاعر، أن نسأل السؤال نفسه. ذلك أنّ وصف أرض فلسطين مكانًا مؤنّثًا، يقترن عادة - وفي سياق القصيدة تحديدًا - بالرحم أو الأمّ أو الحبيبة؛ أيّة أنثى تربطها علاقة وطيدة وأبديّة بالشاعر الرجل.

على الرغم من أهمّيّة هذه التوصيفات لأرض فلسطين، خاصّة منها الّتي تشدّد على الارتباطات الأموميّة بها، والّتي أدّت دورًا مهمًّا، ولا تزال، في الدفاع عنها وحمايتها، فإنّني أودّ أن أقترح، إلى جانب هذه المقاربة، أخرى تصف علاقة الشعب الفلسطينيّ بأرضه في سياق سورياليّ، يتجلّى في الأدب و’الخراريف‘ الشعبيّة الفلسطينيّة. أودّ أيضًا أن أسلّط الضوء على وظائف هذه المقاربة الأدبيّة وتبعاتها المحتملة، حول تصوّر التحرّر الفلسطينيّ والعمل نحوه.

 

السورياليّة البيئويّة... الواقعيّة السحريّة

أعرّف، في بحثي الأكاديميّ، السورياليّة البيئويّة أو (Eco-Surrealism)، نمطًا توصيفيًّا يندرج تحت الواقعيّة السحريّة ويوظّف تقنيّات سورياليّة للتعبير عن علاقة الشعب الفلسطينيّ بأرضه في السياقات الأدبيّة. تقدّم السورياليّة البيئويّة الأدبيّة منظورًا مغايرًا يفسح مجالًا أكبر للعمل نحو معرفة الأرض، عوضًا عن رمنستها فقط، خاصّة في إطار الرجل المنقذ؛ إذ تسمح هذه المقاربة الّتي تستوعب كلّ أطياف الشعب الفلسطينيّ للارتباط الوثيق والحميم بأرض فلسطين، متّخذة بذلك أشكالًا متعدّدة ومتوسّعة. تكمن أهمّيّة السورياليّة، بتعريفها الأصليّ في اللغة الفرنسيّة كما بعد الواقعيّة، في إفساحها المجال لتُصوّر الواقع الفلسطينيّ، من منظور غير محصور في نطاق تشوّه البيئة المادّيّة الفلسطينيّة حاليًّا.

السورياليّة البيئويّة أو (Eco-Surrealism)، نمطًا توصيفيًّا يندرج تحت الواقعيّة السحريّة ويوظّف تقنيّات سورياليّة للتعبير عن علاقة الشعب الفلسطينيّ بأرضه في السياقات الأدبيّة...

نشهد تجلّيات السورياليّة البيئويّة بزخم في الخرافيّات الفلسطينيّة، مثل «الغنيّ والفقير» الموثّقة في مجموعة «قول يا طير» لإبراهيم مهوي وشريف كناعنة[1]. نقرأ فيها عن رجل فقير يدعو الوزير إلى بيته، وتُحضر زوجة الرجل الفقير طبق الملفوف، وأثناء ’تسقيته‘ بالمرقة تُطلق الريح. تشعر الزوجة بالحرج الشديد وتتمنّى أن تنشقّ الأرض وتبتلعها. "ما شافت وإلّا هالأرظ انشقّت وبلعتها. نزلت تحت الأرظ وإلّا شو في تحت الأرظ؟ وإلّا في أسواق ودكاكين وهالدنيا. شو؟ مثل سوق عكّا وزيادة شوي"[2]. إذ تتجلّى هنا سورياليّة العلاقة الّتي تجمع زوجة الرجل الفقير بالأرض، ليس فقط من خلال وجود عالم موازٍ كامل تحت الأرض، لكن في تحقيق الأرض لأمنية المرأة الفلسطينيّة فورًا عند مجاهرة الأخيرة بها؛ إذ تسلّط هذه الحادثة الضوء على ممارسات أنسنة أرض فلسطين، مكانًا حيًّا عضويًّا عاقلًا قادرًا على الالتحام الحرفيّ مع شعبه.

يتّضح من خلال هذا الموقف الطريف في الخرافيّة تصوّر بعد - واقعيّ أو سورياليّ للأرض مكانًا مادّيًّا؛ إذ يجمع هذا التصوّر الرؤية الحقيقيّة للمكان - خاصّة في إشارة الزوجة إلى مدينة عكّا الحقيقيّة - وأخرى سحريّة أو حالمة "عالم موازٍ تحت الأرض"، محقّقة ربّما ما يصفه مهوي وكناعنة بـ "عالم خياليّ احتماليّ"[3]. ذلك خاصّةً أنّ الباحثين يؤكّدان أهمّيّة هذه الأمكنة السحريّة المستترة في الخرافيّات الفلسطينيّة، حيث "هنالك مكان يستسيغه رواة الحكاية الفلسطينيّة مسرحًا لوقوع الأحداث، وهو تحت الأرض… وقد يكون هذا المكان مماثلًا للعالم فوق الأرض... أو يكون بئرًا يقيم بها غول، أو جانّ، أو يُلْقى فيه الإنسان على سبيل العقاب"[4].

أمّا في خرافيّة «بليبل الصيّاح» فنسمع عن امرأة تتزوّج أميرًا، وتثير بذلك غيرة أختيها. ترشو الأختان بدافع الانتقام، الداية الّتي تكذب على أختهما فتعلمها أنّها ولدت حجرًا، وتعطيهما الطفلة الحديثة الولادة، تضعانها في صندوق، وتلقيان به في النهر. تنجو الطفلة، وتكتشف أنّ لها قدرة سحريّة، فإن "اشتت الدنيا وظحكت تشمس الدنيا، وإن شمّست وبكيت، تشتي الدنيا"[5]. فنرى هذا الرباط السورياليّ في تقبّل الأمّ اليافعة فكرة ولادتها حجرًا عوضًا عن إنسان؛ أي ظاهرة الالتحام الحرفيّ مع أرض فلسطين، حيث يولّد جسد المرأة الفلسطينيّ عناصر مادّيّة من الطبيعة الفلسطينيّة. أمّا الجانب الآخر لهذه العلاقة السورياليّة فهو قدرة الطفلة على التحكّم بالجوّ من خلال الضحك والبكاء، فيَظهر هنا تماهٍ تامّ بين المرأة الفلسطينيّة والبيئة الفلسطينيّة.

 

«سرايا بنت الغول»... ما بعد النكبة 

في هذه الخرافيّات، الّتي قيل معظمها قبل النكبة، يُقَدَّم هذا النوع من الالتحام بقالب طريف خفيف، إلّا أنّه في مواضع كثيرة أخرى يكون أكثر جدّيّة، خاصّة في الوقت الراهن ما بعد النكبة؛ ففي رواية «سرايا بنت الغول» (1991) لإميل حبيبي، نسمع عن بدران الّذي ينقذ الراوي عند تعرّضه للغرق. "ما كنت أقع في ورطة بحريّة، أمام بحر أو في عرض البحر، وأستغيث – في سرّي - بالولد بدران، إلّا وينشقّ الصخر أو البحر عنه مقبلًا أو مدبرًا أو عائمًا لخلاصي"[6].

في رواية حبيبي، يتجسّد هذا الرباط السورياليّ، الّذي يجمع الفلسطينيّ ببيئته، على هيئة فتًى أسطوريّ يعيش داخل الحجر والماء في فلسطين، وعلى جهوزيّة دائمة لإنقاذه من المحن والأخطار الّتي تحدق به، والّتي تضاعفت مئات المرّات بعد تأسيس الكيان الصهيونيّ الاستعماريّ. اللافت أيضًا في توصيف شخصيّة بدران الأسطوريّة هو ظهوره عند مناجاة الراوي له في سرّه؛ أي أنّ بدران يستجيب ليس فقط بما يجهر به الفلسطينيّ في لحظات الحاجة، أو اقترابه نحو الموت، لكن بما يخفي أيضًا، مؤكّدًا بذلك رباطًا أبديًّا سرّيًّا يجمع بين الشعب الفلسطينيّ، وعناصر البيئة الفلسطينيّة الّتي تتجسّد هنا في شخصيّة سورياليّة خفيّة.

تتحوّل البيئة الفلسطينيّة من مجرّد خلفيّة لـ ’مسرحيّة‘ الشعب الفلسطينيّ التراجيديّة، إلى عضو فعّال وقادر على الالتحام بالشعب الفلسطينيّ...

تظهر ملامح هذه العلاقة السورياليّة مع البيئة في مواضع أخرى كثيرة في الرواية، خاصّة عند وصف الراوي للعاصفة؛ إذ "كان للعاصفة صفير، ثمّ تحوّل صفير العاصفة إلى عويل، ذكّره بعويل الندّابات على جثمان شابّ يرفعه إخوته وأولاد عمّه على أكتافهم، حاملينه إلى مقرّه الأخير. وكانت الصخور تهوي إلى قاع الوادي السحيق. ونطقت العاصفة تناديه يا يابا، يابا!"[7]. نشهد قمّة التماهي بين الشعب والأرض، على المستويين الفرديّ والجمعيّ، في هذا المقتطف؛ إذ تتّخذ العاصفة صوتًا آدميًّا يناجي الراوي، في الوقت نفسه الّذي تعمد فيه الصخور الّتي أحاطت يومًا جسد شهيد يُزَفّ على أكتاف شعبه، إلى الانتحار بسبب حزنها عليه؛ فتتحوّل البيئة الفلسطينيّة هنا من مجرّد خلفيّة لـ ’مسرحيّة‘ الشعب الفلسطينيّ التراجيديّة، إلى عضو فعّال وقادر على الالتحام بالشعب الفلسطينيّ؛ لتغيير قدره الراضخ آنيًّا تحت آليّات الاستعمار الإسرائيليّ.

 

تشوّه الجسد الفلسطينيّ 

أمّا في القصص القصيرة للكاتبة شيخة حليوى[8]، فتظهر السورياليّة البيئويّة سوداويّة، ومفعمة بنوع من الفقد القاتم الّذي يصف الواقع الفلسطينيّ الراهن. يأخذ الجسد الفلسطينيّ وأنواع تشوّهه حيّزًا كبيرًا في قصص الكاتبة، خاصّة تلك المعالم الّتي توضّح بشكل قاطع تبعات الاستعمار الإسرائيليّ مثل بتر الأعضاء، وحالات الغيبوبة، وأصناف التمويت المتعدّدة.

في قصّة «مئة حكاية وغابة»، تروي لنا امرأة يافعة حادثة أليمة وقعت في بيتها منذ سنوات، وأسفرت عن موت جميع أفراد عائلتها. استطاعت النجاة عند احتمائها في غابة كانت قد سرقت منها شجرة. بعد هروبها من "طوفان من الدم"[9]، تقول لنا: "احتميت بشجرة قديمة، هربت من الغابة، أوصلتني عند أوّل باب في القرية، وعادت. بيد هشّة طرقتُ الباب، ثمّ سقطت وغبت عن الوعي"[10]. تنتهي القصّة بإيحاء تحوّل الفتاة نفسها إلى شجرة حين نقرأ "تصلّبت، تمدّدت، والتصقت بالأرض، وأورقت". دسّت الورقة في حقيبتها، ثمّ علّقتها على فرع مورق، نبت على كتفها"[11]. نرى في هذه القصّة تحقيقًا واضحًا وغنيًّا للسورياليّة البيئويّة الأدبيّة، الّتي تتجلّى في التلاحم الإنسانيّ، الّذي نشهده بين شجرة لها القدرة على اقتلاع نفسها من الأرض لإنقاذ امرأة فلسطينيّة، وقدرة الأخيرة على التحوّل إلى شجرة أو أجزاء منها، محقّقةً بذلك التحامًا تامًّا بين البيئة الفلسطينيّة والشعب. إلى جانب ذلك، فإنّ هذه المقاربة لعلاقة الشعب - الأرض في السياق الفلسطينيّ، تبتعد عن نمطيّة الرجل المحرّر للأرض المؤنّثة، داعية بذلك ارتباطات مختلفة لجميع الفلسطينيّات والفلسطينيّين.

 

مشروع التحرير بوصفه عملًا جمعيًّا 

من الأمثلة السابقة، نستطيع تحديد وظيفتين أساسيّتين، على الأقلّ، تُحقّقهما هذه المقاربة السورياليّة نحو البيئة الفلسطينيّة المتمثّلة بالحياة الطبيعيّة، والجوّ، والسياق الّذي يوجد فيه الشعب الفلسطينيّ، والّذي يؤسّس لفهم مغاير للبيئة الفلسطينيّة وتحريرها؛ فالوظيفة الأولى هي تماهي الأرض للشعب، حيث تُمْحى أيّة مساحات يمكن أن توجد بين الشعب الفلسطينيّ والأرض كمكان مادّيّ، تتأجّج أهمّيّته في سياق اللاجئين والنازحين الفلسطينيّين الّذين غُصِبوا على الابتعاد عن الأرض، وفقْد الارتباط المادّيّ بها.

أمّا الوظيفة الثانية فتنتج عن الالتحام بين الشعب والأرض، الّذي تمتدّ تبعاته إلى الالتحام بين أفراد الشعب نفسه، وبذلك يتحوّل مشروع التحرير الفلسطينيّ إلى عمل جمعيّ، يمارسه جميع الفلسطينيّين والفلسطينيّات في طرق متعدّدة، سواء كانت مقاطعة الكيان أو إنتاج موادّ ثقافيّة عن الواقع الفلسطينيّ، أو الإصرار على حقّ العودة، أو التمسّك وحماية الأماكن الفلسطينيّة، أو المقاومة المسلّحة. إذ تفتح هذه المقاربة الباب للتفكير في الأرض، ليس امرأةً مكلومة في حاجة إلى الإنقاذ، لكن عاملًا عضويًّا عاقلًا قادرًا على المساهمة في تحرير نفسه وشعبه.

تطرح مقاربة السورياليّة البيئويّة منظورًا مغايرًا يوطّد علاقة كلّ أطياف الشعب الفلسطينيّ بالأرض، ويؤكّد كمونيّة الأرض وقدرتها على المساعدة في تحرير نفسها وشعبها...

تبرز أيضًا أهمّيّة هذه المقاربة في أنّها تساهم، بشكل فعّال، في تعطيل التشويه الممنهَج، الّذي تمارسه إسرائيل ضدّ البيئة الفلسطينيّة في جميع أشكالها، ولذلك التشوّه، لو تركناه، أن يطغى تمامًا على البيئة، وبذلك قدرتنا على مجابهة تشويهها، والتحلّي بالأمل لتحريرها من هذا التشويه؛ إذ لا يكون ذلك إلّا من خلال تخيّلنا لواقع مستقبليّ تتحرّر فيه البيئة وشعبها، وهنا تبرز أهمّيّة المقاربات المغايرة لعلاقتنا نحن الفلسطينيّات والفلسطينيّين بالأرض. 

نهاية، تطرح مقاربة السورياليّة البيئويّة منظورًا مغايرًا يوطّد علاقة كلّ أطياف الشعب الفلسطينيّ بالأرض، ويؤكّد كمونيّة الأرض وقدرتها على المساعدة في تحرير نفسها وشعبها، عوضًا عن تقديمها امرأةً مكلومة تنتظر الإنقاذ. ثمّ إنّ هذه المقاربة تُشجّعنا على تصوّر التحرّر الفلسطينيّ المستقبليّ، لأنّها تنتشلنا من براثن الواقع الدمويّ الحاليّ.

 


إحالات

[1] إبراهيم مهوي وشريف كناعنة، قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبيّة الفلسطينيّة (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2001).

[2] مرجع سابق، ص 272.

[3] مرجع سابق، ص 13.

[4] مرجع سابق، ص 51.

[5] مرجع سابق، ص 104.

[6] إميل حبيبي، سرايا بنت الغول: خرافيّة (حيفا: دار عربسك للنشر، 1991)، ص 54.

[7] مرجع سابق، ص 57.

[8] شيخة حليوى، الطلبيّةC345  (إيطاليا: منشورات المتوسّط، 2018). 

[9] مرجع سابق، ص 51.

[10] مرجع سابق، ص 52.

[11] مرجع سابق، ص 52.

 


 

سنابل عبد الرحمن 

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة تهتمّ بالأدب والفنّ المعاصر، مرشّحة دكتوراه في الأدب الفلسطينيّ، بالتركيز على الواقعيّة السحريّة في «جامعة ماربورغ».