}

عيّاض بن عاشور: الإسلام مظلوم من أهله

تدرّج عيّاض بن عاشور في الانتقال من كرسي التدريس في الجامعة والكتابة والأبحاث العلمية وصفوف المعارضة إلى المشاركة الفعلية في العملية السياسية في تونس بعد الثورة. وفي هذا الحوار يبسط صاحب "الفاتحة الأخرى" أفكاره القائلة بإمكان الجمع بين الحداثة والإسلام، بل ويرى في النصّ القرآني إعلاناً إسلامياً لحقوق الإنسان.

بين المفكر والسياسي أين نجد الدكتور عياض بن عاشور؟ 
- كان اختياري الأساسي عندما كنت شاباً ودخلت في سلك الأساتذة الجامعيين، أن أكون جامعياً، وأن يكون نشاطي المهني كلّه مركّزاً على الحياة الجامعية لا غير. وهو ما فعلته منذ التحاقي بالسلك الجامعي عام 1970 وحتّى عام 2005. 

ارتقيتُ إلى سلك أستاذ مساعد، ثمّ ناقشت رسالة الدكتوراة وكان عنوانها : "الدولة الحديثة والفلسفة السياسية القانونية الغربية"، وبعد مناظرة التبريز سنة 74، أصبحت أستاذاً مبرّزاً، ومن ثمّ أستاذاً جامعياً بعد أربعة أعوام.

وفي مسيرتي الجامعية تلك، كانت السياسة والقانون معاً في صلب اهتمامي، لكن من الناحية النظرية، فقد اهتممت بدراسة القانون باعتباره فلسفة الأفكار السياسية وتاريخها. إذ إن جلّ المواد التدريسية، وخصوصاً مادّة القانون العام، تفضي إلى الميدان السياسي والنظم السياسية ومبادئ الحياة السياسية في الأمم. باختصار، كانتْ السياسة والقانون مندمجين في حياتي الجامعية، وظهر ذلك من خلال المحاضرات والكتابات ونشر الكتب في شتّى المجلات العربية. 

إذن متى ولماذا وكيف وصلت للسياسة العملية؟ 
- ربما كانت البدايات عبر موقفي كأستاذ جامعي ضدّ الديكتاتوريات في تونس؛ في عهد بورقيبة أولاً، رغم مساهمته في تطوّر الدولة التونسية، لكنه كان مستبدّاً ومتمسكاً برأيه. ومن ثمّ في عهد بن علي، تميّزتُ بين جلّ رجال القانون الجامعيين، بمواقفي وتضامني مع المعارضة، من دون المرور بحزبٍ أو اتجاه نضالي معيّن. وكنتُ أساهم في عالم الفكر والكتابة عبر مقالاتي في جريدة الرأي المعارضة آنذاك.

وكنت أرمي من خلالها إلى رفع الحصانة عن الديكتاتورية، وكشف مساوئها وعيوبها وأضرارها على المجتمع خصوصاً من الناحية القانونية. وساهمتُ سياسياً كأستاذ جامعي من نواحٍ أخرى، مثل استقالتي من المجلس الدستوري سنة 1992، بضعة أشهر بعد تقديم قانون الجمعيات للمجلس الدستوري الذي كنت عضواً فيه مع زميلي المرحوم عبد الفتاح عمر.

آنذاك كان فعل الاستقالة بحدّ ذاته، يعدّ موقفاً سياسياً واضحاً، أقرب إلى الجريمة، إلى درجة أن رئيس المجلس الدستوري صلاح الدين بالي، رفض استقالتي، بل ورفض تسجيلها، ما جعلني أرسلها إلى رئيس الدولة عن طريق مكتب الضبط في الجامعة، وأرفقت بها تقريراً من أربع صفحات عن أسباب قراري، أوضحت فيه أن القانون غير دستوري، ومخالفٌ لضمير رجل القانون.

بعد استقالتي وجهت اهتماماً أكبر إلى الكتابات الصريحة والفضاءات الفكرية المستقلة مثل منتدى الجاحظ، والمحاضرات في رابطة حقوق الإنسان. وأذكر أهم المحاضرات في شهر أيّار / مايو 2002 ضدّ التعديل الدستوري الذي أراده بن علي، لرفع مدّة الفترة الرئاسية التي كانت محدّدة بدورتين. حيثُ بيّنتُ أن هذا التعديل غير دستوري، وعليه تصبح الأحكام الجديدة غير دستورية. وأذكر وقتها أن الحرس ورجال الشرطة حول مقرّ الرابطة كانوا أكثر من الحضور. واقتربت من السياسة الميدانية حين ساندتُ محمّد علي الحلواني الذي ترشّح للرئاسة ضدّ بن علي عام 2003. ورافقته عند إيداعه ملف الترشّح في باردو.

أمّا زيارتي في عزّ فترة الاستبداد للمناضلين اليساريين والقوميين والإسلاميين المضربين عن الطعام عام 2005، فأعدّها موقفاً سياسياً صريحاً. هكذا دخلتُ السياسة العملية من باب المعارضة مع الأحزاب والجمعيات التي قاومت الاستبداد.

لكن ما جعل السياسة تدخل حياتي من بابها العريض، تمّ بعد الثورة، إذ عُيّنتُ رئيساً للجنة الإصلاح السياسي عام 2011 التي صار اسمها "لجنة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي"، ومن وقتها وجدت نفسي في مجالٍ آخر من السياسة تماماً بعد الثورة، حين عرض علي رئيس الحكومة آنذاك السيد محمّد الغنوشي رئاسة لجنة الإصلاح السياسي. أظنّ سنة 2011 حملت ثقلاً أكبر من سنوات حياتي الجامعية كلّها. 

لماذا؟ 
- لأن الجامعي تحكمه ورقة بيضاء، يجلس أمامها ويفكّر بما يشاء ويكتب ما يشاء ويقرر ما يشاء، أمّا السياسي ولاسيما في المنصب الذي عُيّنتُ فيه فيجعلني بين أهم ثلاثة شخصيات تقرّر في البلد: رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، وأنا رئيس لجنة الإصلاح السياسي. 

كان الوضع صعباً ومحرجاً جرّاء الضغوطات الكبيرة والتجاذبات التي عرفناها بعد الثورة. كان هناك أيضاً نوعٌ من الفراغ الدستوري، كنّا بمواجهة الرهان الأكبر؛ النجاح في عملية انتخابات في مجلس تأسيسي في وقتٍ لا يتجاوز الستة أشهر، أي النجاح في تنظيم الانتخابات، وإعداد قانون انتخابي، وإعداد قانون يتعلّق بالهيئة المستقلة للانتخابات، وإعداد قانون الأحزاب، إذ لا يمكن أن يكون هناك انتخاب أحزاب من دون قانونٍ ناظمٍ لها، ووضع قانون للصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة.

قمنا بكلّ هذه الأمور، وأعددنا جميع القوانين الضرورية في أقلّ من ستة أشهر. ونجحت الهيئة العليا للانتخابات التي ترأسها كمال الجندوبي بالإشراف على انتخابات حرّة وديمقراطية. 

هذه علاقتي بين القانون والسياسة، وربما من خلال مسيرتي المهنية الطويلة (35 عاماً) بين التدريس والمعارضة والعمل السياسي، وصلت إلى مبدأ بسيط لكنه مهمّ : لا يجوز لرجل القانون أن يمدّ يده للديكتاتورية بأي شكلٍ كان. 

أغلب مؤلفاتك تهتم بالإسلاميات، من كتابك الأوّل "السياسة والدين في العالم العربي" إلى كتابك الأخير "الفاتحة الثانية". لماذا هذا التركيز على الإسلاميات، في حين أن الكثير من المثقفين الحداثيين يهتمون بقضايا أخرى يعدّونها أكثر راهنية من المسائل الدينية ؟ ولماذا "الفاتحة الثانية"؟ ولماذا الآن؟ 

- صدر كتابي الأوّل في القانون الإداري، قبل "السياسة والدين". لكن الإسلاميّات كانت منذ البداية ودائماً في صلب اهتماماتي الجامعية. دخلت الإسلاميّات عام 1970 من باب القانون الدستوري، أي سنة بعد وفاة والدي الشيخ الفاضل بن عاشور.

كنت أستاذاً مساعداً شاباً، حين اختار الأستاذ الصادق بلعيد موضوع "الإسلام والدستور"، وتركنا نبحث لتهيئة الدروس التطبيقية حول الموضوع، فاتصلتُ بالشيخ الجد الشيخ الطاهر بن عاشور الذي كان مرجعي لتحضير الملف، وسألته عن الظواهر التي يمكن إدراجها في هذا الموضوع، فأفادني كثيراً بغزارة معلوماته وموسوعيته وعقلانيته، وهيأني لأكون فعّالاً ومميّزاً ضمن فريق البحث عن موضوع الإسلام والدستور.

كانت تلك الانطلاقة التي واصلت بعدها البحث في العلاقة بين الإسلام والقانون، التي كانت موضوع أطروحتي للدكتوراة "الدولة الحديثة والفلسفة"، حيث تناولت فيها الفكر الإسلامي وعلاقته بالقانون. أمّا سؤالك عن كتابي "الفاتحة الثانية" لماذا الآن، فقد كتبته قبل الثورة، لكنه نُشر في مارس / آذار2011، أي بعدها بأشهر قليلة، وهذه مصادفة بسبب ظروف المطبعة والنشر والتوزيع. وأقصد بالفاتحة الثانية أو الأخرى، فاتحة أخلاقية تعتمد على آيات وقواعد إسلامية، هي ليست فاتحة بالمعنى القرآني.

فما قصدته هو أنه كما يفتح المسلم صلاته بالفاتحة، عليه أن يفتح قلبه وفكره بآيات قرآنية، لتكون كممارسة أخلاقية لحياته ووجوده، تدفعه للتعامل مع الآخر ومع نفسه، والدليل هو الآيات من سورة الإسراء مثل: "لَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا". 

أمّا لماذا "الفاتحة الأخرى/ الثانية"، فمن أجل توضيح أن الإسلام مظلومٌ قبل المسلمين، لأنهم ما زالوا متشبثين بقراءات تقليدية له، تضرّ بصورته. إذ تظهر مرجعيته الإرهاب والجهاد وضيق الأفق الفكري، والتشبث بحرفية القواعد التشريعية.

أردت إظهار أن الإسلام أكبر من المسلمين وأعظم، وأنه يحمل طريقة منفتحة مستنيرة، تمكّننا من التوليف بين تعاليم الإسلام والثقافة الحديثة. تحدّثت عن الإسلام والحقوق الحديثة، وعن الإسلام والديمقراطية، وعن الإسلام وحقوق الإنسان. 

كيف يمكن أن تكون هذه الآيات فاتحة لوجداننا وأخلاقنا؟ كيف ترفع صورة الإسلام وحضارته؟ 
- خلافاً للإسلام الرائج الذي يركّز على علم السلف والتقليد كركيزة الحضارة الإسلامية، وأن يتقيّد الخلف بعلم السلف، فهذا مبدأ منهجي مضرّ يؤدي إلى تحديد الأفق وغلق الفكر، نتيجته ما نشاهده اليوم من تطرّف "داعش" وإرهاب الجهاديين.

الفاتحة الأخرى رسالة موجهة للمفكرين والنخب والشعوب الإسلامية، ليناصروا الجانب المستنير والمتفتح للإسلام كي يتمكّن المسلمون من مواكبة الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان. الآيات في سورة الإسراء من الممكن أن تكون بمثابة إعلان إسلامي لحقوق الإنسان. 

ذكرت أن الدولة الإسلامية، دولة دين وليست دولة إسلامية؟ هل يمكن التوافق بين الدين والدولة المدنية؟ 
- ثمّة فرق بين دولة الدين وبين دين الدولة التي أسّسها الرسول في المدينة كوسيلة لتسيير الدين. كانت الدولة آنذاك دولة المدينة. اليوم الدين يعني شيئاً آخر في الدساتير الحديثة، وضع الدين في خدمة الدولة وأن يكون أداة لإنمائها، لكن ما يقوم به رؤساء الدول اليوم هو استغلال الدين لأغراض سياسية.

إذن العلاقة بين الدين والدولة على مستويين؛ التمازج وهو الصورة التي تحدّثنا عنها، وهي تضرّ بالدين وبالدولة معاً، والتفارق بين الدين والدولة؛ التفارق على المستوى الاجتماعي وعلى مستوى الدولة، وهو مشابه للتجربة التي تعيشها الدول الأوروبية، حيث لا تدخّل للدولة في الشؤون الدينية، ولا تأثير للدين على الدولة. وأكثر دولة تطبّق ذلك فرنسا.

فحين يعيش المواطن في دولة تتعامل بالتفارق، لا يعيش دينه كثقلٍ يحمله طيلة اليوم. يمكنه ممارسة تديّنه بكلّ حرية، أن يذهب للكنيسة وأن يصلّي كما يريد. حياته السياسية والاجتماعية لا علاقة لها على مستوى التشريع بحياته. كذلك يجب على الدولة ألّا تتدخّل في الدين. 

هل هذا ممكن في دولنا الإسلامية؟ 
- أظنّه ممكناً شرط أن يفهمه جلّ المسلمين اليوم، وهو أن يبقى في المجال الذاتي الخاص والشخصي، يعني أن يؤمن المؤمن بما يشاء وأن يعيش حياته الدينية كما يشاء من دون انعكاس على حياته السياسية كالانتخابات، والتنظير الإداري، ووضع الدستور وتطبيقه. يجب أن تبقى كلّ هذه الأمور خارجة عن نطاق الدين. الدين في القلب والوجدان وفي العبادات من دون التأثير على الميدان التشريعي. 

أي ما حاول الدستور التونسي تكريسه؟ 
- ما حاول الدستور الحالي تكريسه سنة 2014 هو التوافق، وذلك من ثلاثة جوانب: إدراج حرية الضمير في الفصل السادس، وهو الدستور الوحيد في العالم العربي الذي اعترف بحرية الضمير. والصبغة المدنية، أي لا دخل للدين في شؤون الدولة. وإحجام الدستور عن ذكر أن الإسلام دين الدولة، وهو فريد في العالم العربي، ويدلّ على أن الدستور التونسي يعمل على التوافق بين الدين والدولة. 

هل لديك تخوّف من احتمال حصول انتكاسة للتجربة التونسية، في ظلّ الرهانات التي قد تفرزها الانتخابات الرئاسية؟ 
- درستُ التاريخ والمؤرّخين، وأعلم أن كلّ شيء ممكن، ولا يقين في أن تجربة ما ستبقى ناجحة. لكن التاريخ يعطينا مفاجآت كبيرة. كلّ شيء محتمل. لا تنسَ أن تونس مرّت بمراحل أكثر حدّة وصعوبة مما نعيشه اليوم في المرحلة الأولى من الاستقلال. ورغم هذه الصعوبات، نجحت تجربتنا. ولا أرى اليوم عاملاً حاسماً يمكن أن يحول دون نجاحها. 

كيف تحدّد دور المثقف اليوم من خلال تجربتك وتجربة جيلك؟ 
-المثقف متباين من خلال تكوينه والمجال الذي يعمل به، يختلف دور المثقف الفنّان كالأديب أو الشاعر أو المفكر، عن المثقّف في المجال القانوني. بالنسبة إلى المجال الحقوقي والقانوني، الأساس هو السعي نحو أشياء ثلاثة؛ الربط بين الوقائعي والنظريات، ومن يعش في برجه العاجي ليس مفكّراً في نظري.

والإبداع في الميدان القانوني وعدم التقليد، لأن التقليد بالنسبة إلى رجل متكون في العلوم القانونية غير منطقي، التقليد في الأحكام، تقليد القدامى وهذا لا يعني عدم احترام ما قاموا به، والتبعية للحاكم، لأن طبيعة القانون تجعل من المفكّر الحقوقي شخصاً قريباً من الحكم، لذلك المعارضة في الميدان القانوني أصعب من المعارضة في الميدان الفني أو الأدبي.

وكذلك يجب على المفكّر في القانون تنبيه الرأي العام إلى كلّ ما من شأنه تكريس الحكم الاستبدادي، لا بدّ أن يقرع ناقوس الخطر، عندما تلوح بوادر ديكتاتورية الأنظمة في الأفق. لا بدّ أن يكون صارماً، وهذا ما حاولت أن أكونه خلال مسيرتي المهنية والجامعية.

ما أرفضه تماماً هو تصرّف بعض رجال القانون من جيلي وتلامذتي، الذين ساهموا في تكريس الديمقراطية من خلال دراستهم، ساهموا أيضاً في مناشدة الرئيس المخلوع بن علي للترشّح مرّة ثالثة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.