قام الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron» بزيارة رسميَّة إلى منطقة القرن الإفريقي يوم 20 و21 من ديسمبر الجاري (2024م)، شملت جيبوتي وإثيوبيا؛ حيث التقى في اليوم الأول بنظيره الجيبوتي «إسماعيل عمر جيله»، قبل أنْ يُغادر إلى أديس أبابا في اليوم التالي؛ حيث كان في استقباله رئيس الوزراء الإثيوبي «آبي أحمد»، وقد ناقش ماكرون خلال زيارته القضايا الإقليميَّة التي تموج بها منطقة القرن الإفريقي، وسُبل تعزيز الشراكة والتعاون الاقتصادي والأمني مع حكومتي البلدين.
وتُعدّ هذه الزيارة هي الأولى للرئيس الفرنسي إلى المنطقة منذ إعادة انتخابه لولاية رئاسيَّة ثانية قبل أكثر من عامين ونصف، وكان قد سبق له زيارة المنطقة خلال ولايته الأولى، وتحديدًا عام 2019م.
السياق الإقليمي للزيارة:
تأتي زيارة ماكرون الراهنة إلى منطقة القرن الإفريقي في ظل سياق إقليمي متغيّر، يمكن الكشف عنه من خلال عدد من التفاعلات والتطورات الإقليميَّة التالية:
1- تراجع النفوذ الفرنسي وانحساره في غرب إفريقيا:
تعيش فرنسا وضعًا دوليًّا غير مسبوق، على إثر تراجُع نفوذها التقليدي في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل وتحوُّلها من حليف إستراتيجي إلى طرفٍ غير مرغوب فيه. فبعد الانقلابات العسكريَّة التي شهدتها مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر خلال السنوات الأخيرة، والتي أنهت الوجود العسكري لباريس في المنطقة، وأفسحت الطريق لتمدُّد أقطاب دوليَّة أخرى لسدّ الفراغ الذي خلّفته فرنسا، استمرت موجة العداء المناهضة للوجود الفرنسي؛ حيث طالب الرئيس السنغالي «باسيرو ديوماي فاي» بضرورة جلاء القوات الفرنسيَّة من بلاده، معتبرًا أن وجود تلك القوات الأجنبيَّة يعارض مبدأ السيادة الوطنيَّة، وبدَوْرها أعلنت تشاد أواخر نوفمبر الماضي (2024م) تعليق اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع فرنسا، ودعت القوات الفرنسيَّة إلى الانسحاب الكامل من أراضيها خلال موعد أقصاه 31 من يناير 2025م.
يُضاف إلى ذلك تقلُّص الوجود العسكري الفرنسي إلى حدّه الأدنى في كل من الغابون وكوت ديفوار. ولا شك أنَّ هذه التطورات تُهدِّد بتقويض نفوذ فرنسا في إفريقيا باعتباره أحد مرتكزات وعوامل قوتها، مما يُهدّد بتراجع مكانتها كفاعل مؤثر في السياسة الدوليَّة.
2– تصاعد الاضطرابات في الإقليم:
يُعدّ القرن الإفريقي وما حوله منطقة متخمة بالصراعات السياسيَّة والأمنيَّة، ولا تكاد تخبو أزمة حتى تنفجر أخرى. فإلى جانب استمرار الحرب الأهليَّة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أبريل 2023م؛ تعاني إثيوبيا أوضاعًا داخليَّة غير مستقرة؛ بفعل تجدُّد الاشتباكات مع جبهة تيغراي، وتزايد الهجمات العنيفة التي تقوم بها حركة الشباب المسلحة ضد الحكومة الصوماليَّة، بالإضافة إلى تفاقم الخلافات بين مقديشو وأديس ابابا، على إثر الاتفاق الذي أبرمته الأخيرة مع حكومة إقليم أرض الصومال الانفصالي في يناير 2024م؛ يمنح إثيوبيا حق إنشاء قاعدة عسكريَّة وميناء تجاري لمدة خمسين عامًا مقابل اعترافها باستقلال الإقليم، وهو ما اعتبرته حكومة الصومال تعديًا على سيادتها وتقويضًا لاستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها.
3- توسع الحضور الصيني في المنطقة:
تستمر الصين في إستراتيجيتها الرامية إلى توطيد نفوذها وتأمين مصالحها السياسيَّة والاقتصاديَّة في إفريقيا، ولا سيَّما منطقة القرن الإفريقي التي أصبحت بؤرةً لاجتذاب القوى العظمى؛ نظرًا لأهميتها الإستراتيجيَّة والاقتصاديَّة.
وتنتهج بكين مجموعةً من الأدوات الدبلوماسيَّة والروافع الاقتصاديَّة لتعزيز علاقاتها بدول الإقليم وحماية مبادرتها الكبرى المعروفة بالحزام والطريق، والتي يُشكّل القرن الإفريقي جزءًا مهمًّا من مُكوّنها البحري، حتى أصبحت الشريك الاقتصادي الأول لدول المنطقة وأكبر دائن لها.
ويعكس تعيين وزير الخارجيَّة الصيني لمبعوث دبلوماسي خاصّ إلى القرن الإفريقي، في يناير 2024م، تعاظم أهمية المنطقة بالنسبة للصين، وحرصها على الانخراط في شؤونها كفاعل مؤثر وليس مجرد شريك اقتصادي فقط.
4- تنامي النفوذ التركي:
تشهد منطقة القرن الإفريقي تصاعدًا مطردًا للنفوذ التركي، ويتجلَّى هذا النفوذ في عدة مؤشرات؛ أهمها الاتفاق الإطاري للتعاون الدفاعي والاقتصادي الذي أبرمته أنقرة في فبراير الماضي مع حكومة الصومال، يرمي هذا الاتفاق إلى إنشاء قوة عسكريَّة مشتركة بين البلدين لتأمين سواحل الصومال، ويسمح للشركات التركيَّة بالتنقيب واستخراج النفط والغاز في المياه الإقليميَّة للصومال، قبل أن يوافق البرلمان التركي في يوليو 2024م على نشر قوات تركيَّة ضمن نطاق المياه الإقليميَّة للصومال لمدة عامين.
وتأكيدًا على دور أنقرة المحوري في إدارة صراعات القرن الإفريقي؛ أعلن الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» في ديسمبر الجاري عن مصالحة تاريخيَّة بين الصومال وإثيوبيا، من شأنها نزع فتيل التوتر بين البلدين، وتهيئة الظروف السياسيَّة لإجراء مفاوضات فنية لتسوية نقاط الخلاف.
دوافع إستراتيجيَّة متعددة:
تتطلع فرنسا من وراء زيارة رئيسها «إيمانويل ماكرون» لإثيوبيا وجيبوتي إلى تحقيق عدة أهداف؛ تُعزّز من خلالها مصالحها الإستراتيجيَّة، ونرصد فيما يلي أهم هذه الأهداف:
1- توطيد النفوذ:
لا ريب في أنَّ الدافع الرئيس لزيارة ماكرون إلى القرن الإفريقي يكمن في سعي فرنسا إلى توطيد نفوذها في شرق إفريقيا بعد الضربات المتوالية التي مُنِيَتْ بها على الجانب الآخر من القارة (غرب إفريقيا والساحل)؛ بسبب الانقلابات العسكريَّة التي أفرزت نُخْبَة سياسيَّة مُعادية لها، واضطرتها إلى سَحْب قواتها وتعكير صفو علاقاتها بمستعمراتها السابقة.
ومِن ثَمَّ فقد أصبح القرن الإفريقي يُمثِّل مرتكزًا للإبقاء على النفوذ الفرنسي في إفريقيا قائمًا، بما يمنحها القدرة على التأثير والاضطلاع بدور فاعل ومؤثر في ملفات وقضايا الصراع الإقليمي في البحر الأحمر ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا.
2- تعزيز العلاقات الثنائيَّة مع جيبوتي وإثيوبيا:
أحد الدوافع الرئيسية التي يسعى ماكرون إلى تحقيقها من زيارته إلى جيبوتي وإثيوبيا هو تعزيز العلاقات السياسيَّة والاقتصادية مع هذين البلدين، ونسج شراكات جديدة معهما في مجالات متنوعة. فبالنسبة إلى جيبوتي، فقد احتفظت تلك الدولة الصغيرة المطلة على البحر الأحمر بعلاقات دافئة مع فرنسا منذ استقلالها عنها عام 1977م، ومنذ ذلك الحين تحتفظ باريس بقاعدة عسكريَّة في جيبوتي، تضم اليوم حوالي 1500 جندي، وهي أكبر قاعدة عسكرية لفرنسا في الخارج، وهي الوحيدة التي لم تتأثر بقرار الحكومة الفرنسية بشأن هيكلة وتخفيض قواتها العسكرية[[1]] المنتشرة في أقاليم ما وراء البحار.
وقد تطرق الرئيس ماكرون خلال لقائه بنظيره الجيبوتي “عمر جيله” إلى الشراكة القوية بين البلدين في مجال الأمن والدفاع والبنية التحتية، والتي تعززت بإبرام اتفاقية دفاعيَّة بين الجانبين قبل خمس سنوات، وتم تجديدها في يوليو الماضي (2024م)، كما شدَّد ماكرون على أهمية جيبوتي لبلاده في إطار إستراتيجيتها بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (الإندوباسيفيك).
بدَوْرها تمثل إثيوبيا شريكًا إستراتيجيًّا مهمًّا لفرنسا في القرن الإفريقي؛ لذلك تتطلع باريس إلى تعزيز التعاون معها. وتأكيدًا على موقف فرنسا الداعم لأديس أبابا، أعلن ماكرون خلال اجتماعه برئيس الحكومة الإثيوبي «آبي أحمد» أنَّ بلاده تشجّع جهود إعادة هيكلة ديون إثيوبيا في أعقاب توصُّلها لاتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج تمويل قيمته 3.4 مليار دولار، كما وصف ماكرون مطالب إثيوبيا بالوصول إلى البحر وتنويع منافذها البحريَّة بالحق الطبيعي والمشروع، داعيًا إلى فتح آفاق جديدة للتعاون بين البلدين استكمالاً لجهود الشراكة التي تكللت بتوقيع عدة اتفاقيات في مارس 2019م، من بينها اتفاق يرمي إلى تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، ومساعدة الحكومة الإثيوبيَّة على بناء وتطوير قدراتها البحريَّة.
3- تحسين صورة فرنسا أمام الرأي العام الإفريقي:
لا يُعزى تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا إلى إخفاقها الأمني في القضاء على التنظيمات والجماعات المُسلحة أو لدورها في استفحال المشكلات الاقتصاديَّة، واتباعها نمط الوصاية الأبوية في علاقتها مع الدول الإفريقيَّة فحسب، بل يرجع ذلك أيضًا إلى صورة فرنسا كدولة استعمارية ونظرتها الاستعلائية في التعامل مع حكومات وشعوب القارة، ومِن ثَمَّ يُحاول ماكرون من خلال زيارته إلى القرن الإفريقي تغيير تلك الصورة الذهنية عبر أدوات القوة الناعمة، وهو ما تجلَّى في مشاركته لرئيس الحكومة الإثيوبي “آبي أحمد” في افتتاح «القصر الوطني» الذي كان مقرًّا للإمبراطور هيلا سيلاسي الأول الذي أُطيح به عام 1974م، ودعمه لمشروع الحفاظ على التراث الإثيوبي باعتباره جزءًا من التراث العالمي، وذلك في مسعى منه لتحسين صورة فرنسا أمام الرأي العام لدول القرن الإفريقي عبر إظهار اهتمامه بتاريخ وثقافة الشعوب الإفريقيَّة.
4- كبح نفوذ الخصوم الإستراتيجيين:
يُواجه الحضور الفرنسي في القرن الإفريقي منافسةً شديدةً من بعض القوى الفاعلة، في مقدمتها الصين وتركيا. فالصين، كما ذكرنا، باتت الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لإفريقيا والقرن الإفريقي، ولا يتوقف نفوذها في المنطقة على الحضور الاقتصادي، بل يتجاوزه وصولاً إلى التمدد العسكري؛ ففي سياق رؤيتها الإستراتيجيَّة بضرورة إيجاد موطئ قدم دائم في القرن الإفريقي، شرعت الحكومة الصينيَّة في إنشاء قاعدة عسكريَّة لها في جيبوتي عام 2017م، وهي أول قاعدة بحريَّة صينيَّة في القرن الإفريقي، والهدف من هذه القاعدة -وفقًا لما أعلنته وكالة أنباء الصين-: ضمان أفضل أداء للصين في بعثات حفظ السلام والمُساعدات الإنسانيَّة في إفريقيا، والمُساعدة في أداء المهام الخارجيَّة بما في ذلك التعاون والتدريب العسكري، فضلاً عن حماية الأمن الصيني في الخارج[[2]].
ومِن ثَمَّ، فإنَّ زيارة ماكرون إلى القرن الإفريقي تنطوي ضمن أهدافها على تحذير لحكومات تلك الدول من المخاطر التي تُهدِّد سيادتها بسبب تنامي الحضور الاقتصادي والعسكري المتزايد للصين.
من ناحية أخرى، يسعى ماكرون من خلال زيارته تلك إلى احتواء النفوذ التركي في المنطقة؛ حيث بات يُنظَر لأنقرة بوصفها خصمًا إستراتيجيًّا لباريس، وهي التي استغلت انحسار النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا من أجل توسيع دائرة نفوذها وتحالفاتها، بما في ذلك تطوير التعاون العسكري والأمني مع دول الساحل، وفتح أسواق جديدة لصناعتها العسكريَّة؛ لذا قد تحاول فرنسا إعاقة الاتفاق الإثيوبي الصومالي الذي رعته تركيا، عبر تشجيع أديس أبابا للمضي قدمًا ودفعها نحو إعادة بناء قوتها البحريَّة، بهدف مساومة أنقرة على عدد من الملفات الإستراتيجيَّة[[3]].
5- أهداف أخرى:
من بين أهداف زيارة ماكرون إلى إثيوبيا محاولة إبرام اتفاق معها بشأن نقل وإمداد الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، التي تنخرط في قتال ضد الجيش السوداني منذ أبريل 2023م، عبر الأراضي الإثيوبيَّة، وذلك في أعقاب تعليق تشاد لتعاونها العسكري مع فرنسا، ومنعها عبور الأسلحة عبر أراضيها إلى الدعم السريع[[4]].
ختامًا:
وعلى ضوء ما تقدّم، يمكن القول: إنَّ زيارة ماكرون إلى القرن الإفريقي، وما تنطوي عليه من أهداف ودوافع متباينة، تعكس تحولاً أوسع في سياسة فرنسا الإفريقيَّة، فمع تضاؤل نفوذها في مستعمراتها السابقة بدول غرب إفريقيا التي اتجهت إلى بناء تحالفات جديدة مع شركاء جدد على رأسهم روسيا؛ تتطلع فرنسا إلى القرن الإفريقي باعتباره ركيزةً إستراتيجيَّة يمكن لها من خلالها توطيد نفوذها في شرق إفريقيا، ومواجهة خصومها الإستراتيجيين، بل وإعادة تقديم نفسها كلاعب مُؤثّر في معادلة الصراع الأمنيَّة والسياسيَّة في البحر الأحمر ومنطقة الإندوباسيفيك.
……………………..
-[1] “ماكرون: جيبوتي مهمة لإستراتيجية فرنسا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، جريدة الشرق الأوسط، مقال منشور بتاريخ 21 ديسمبر 2021م، متاح على https://2u.pw/l2jH7sQS
[2]– فؤاد مسعد، من تأسيس المشاريع الاقتصاديَّة إلى بناء القواعد العسكريَّة: النفوذ الصيني في القرن الإفريقي، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، ديسمبر2023م، ص12.
[3]– أحمد عسكر، “تحولات إستراتيجيَّة في التوجه الفرنسي نحو القرن الإفريقي”، مركز الأهرام للدراسات السياسيَّة والاستراتيجيَّة، 22 ديسمبر 2024م، متاح على: https://acpss.ahram.org.eg/News/21324.aspx
[4]– Ethiopia On The Brink Of New Conflicts: Macron’s Visit And Secret Agreements To Support Sudanese Rebels, The habesha, 19 December 2024, https://zehabesha.com/ethiopia-on-the-brink-of-new-conflicts-macrons-visit-and-secret-agreements-to-support-sudanese-rebels/