من الذي يتحكّم بالسياسة الدولية؟

ربما علينا جعل السؤال أكثر مرونة، فنسأل: ما الذي يتحكم بالسياسة الدولية؟ فالسؤال “من؟” يعزو الأمر لأشخاص بعينهم، والسؤال “ما؟” يجعل الأمر مفتوحا على عوامل متعددة.

اعتدنا على تفسير الكثير من الحروب والأحداث السياسية على طريقة نظرية المؤامرة، من استهداف الأمة أو الدولة أو الديانة لأسباب غامضة، تتشابه مع طرق تفسير الحضارات الأولى للكوارث والظواهر الطبيعية. ولأن الإنسان يلجأ للتفسيرات الماورائية أو الاحتجاج بالجهل، فإنني سأحاول في هذه المقالة، شرح أهم العوامل التي تتحكم في السياسة في عالمنا.

يُعدّ فريدريك راتزل، وهو عالم ألماني، المؤسس الأول لعلم الجغرافيا السياسية، ذلك العلم الضروري لفهم أسباب الحروب، وتحديد الرابح والخاسر فيها، فلا معنى للتسمّر أمام نشرات الأخبار، دون الإلمام بالعلوم الضرورية لفهم السياسة، والجغرافيا السياسية أحد أهم هذه العلوم.

الجغرافيا السياسية مبحث واسع، لم يكن لينشأ على الصورة التي هو عليها الآن لولا نشأة الدولة الحديثة التي كرستها معاهدة وستفاليا، لكن هذا لا يعني أنها لم تكن فاعلة من قبل كسُننٍ عامة تحكم السياسة كما سنرى، هي فقط لم تكن مكتشفة كعلم.

أساس فكرة راتزل أنه نظر للدولة ككائن مكانيّ حيّ، يرتبط مصيره بمجاله الحيوي، ولأن الدول تكبر وتزداد احتياجاتها، فهي بحاجة لتوسيع مجال نشاطها، بصورة دائمة، ولو بالقوة.

ارتبطت هذه الفكرة بما يسمّى الداروينية الاجتماعية، وهي التي تقول بأن الاصطفاء الطبيعي يعمل في المجتمع البشري، لكن الجغرافيا السياسية ارتبطت بصراع البقاء بين المجتمعات والثقافات والدول، لا صراع البقاء بين الأفراد أو الطبقات في المجتمع نفسه، ذلك الجزء الأكثر إثارة للجدل من فكرة الداروينية الاجتماعية.

لماذا تشتعل الحروب؟

إذا كانت فكرة ريتشارد ليبو، عالِم السياسة الأمريكي، التي عبّر عنها في كتابه “لماذا تتحارب الأمم؟”، حول السبب المباشر لاشتعال الحرب صحيحة، وهو يسميه “ظاهرة التحلّق حول العلم”، التي يمكن إدراجها تحت فكرة “الكرامة الوطنية”، فالنار تحتاج حطبا يابسا لتشتعل فيه، ويبدو أن المجال الحيوي الذي تنشأ في الحروب، أو الحطب اليابس الذي تنتشر فيه النار، يجففه تقدير الدول لمصالحها الداخلية والخارجية، أكثر الأمور حسما في هذه المصالح، المصالح الجغرافية السياسية.

الدولة ككائن حي له حاجاته، ومنذ الثورة الصناعية في أوروبا بدأ عصر الإنتاج الواسع النطاق “Mass production”، والذي يقلل تكلفة السلعة، بدأت الحاجة لمواد خام، وأيدٍ عاملة رخيصة، وأسواق تستهلك ما تنتجه الآلة الصناعية، وطرق لتأمين انتقال المواد والسلع، وهذه الفكرة التي تنزل تحت عنوان اقتصاديات الحجم، مسؤولة بصورة أو بأخرى عن توسيع أثر قوانين الجغرافيا السياسية، التي قررها راتزل، والتي يضعها علماء السياسة بمنزلة قوانين نيوتين من علم الفيزياء.

كما تحدث الجنرال الصيني سن تزو في كتابه فن الحرب عن اندفاع الجيوش، بأنه يشبه الماء الذي يندفع باتجاه أضعف الحواجز، فإن الدول عندما تتوسع تتجه نحو أقل الدول مقاومة لها في محيطها، وهذا يفسر _مثلا_ سبب محاولة ألمانيا ضم النمسا مرة بعد مرة، في عصور مختلفة وتحت أيدولوجيات متنوعة.

ما هي قوانين الجغرافيا السياسية؟

هي قوانين تحكم العلاقة بين الجغرافيا وسياسة الدول التي تشغلها، وهي بصورتها الأبسط خمسة قوانين، ألخصها لكم هنا، معلقا على كل منها، بمثال من ثقافتنا:

القانون الأول: تنقسم الدول التي تشترك في الإقليم الجغرافي نفسه، إلى دول مركزية، ودول طرفية، والدول المركزية تفرض شروطها على الدول الطرفية.

بحكم الموقع الجغرافي، ووجود منافذ بحرية، وتكوين سكاني، وقوة عسكرية، وغيرها من مقومات الدول، فإن الدولة المركزية في إقليم جغرافي معين، تفرض هيمنتها على الدول الطرفية. وهذا ينطبق على الأقاليم الجغرافية المتداخلة، فبلاد الشام كإقليم جغرافي، هي جزء من إقليم جغرافي أوسع، هو الهلال الخصيب، وهو بدوره جزء من المشرق العربي، وهكذا…

المملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية، أو سوريا في بلاد الشام، أو مصر في الشمال الإفريقي، هي أمثلة جيدة على هذا، فهي دول مركزية تفرض شروطها وتبسط هيمنتها على الدول الطرفية التي تشاركها في الأقاليم المذكورة.

القانون الثاني: إذا أرادت دولة طرفية أن تتفلت من هيمنة الدولة المركزية التي تشاركها الإقليم، فلابد لها من أن تتعاون مع دولة مركزية أخرى في الإقليم الأوسع، أو دولة عظمى عالمية خارج الإقليم.

هذا القانون مثلا يفسر التقارب القطري الإيراني أيام تنافس قطر مع السعودية، ويفسر تقارب حكومة بشير الجميّل في لبنان مع “إسرائيل” أيام الخلاف مع سوريا، ويفسّر ما نراه من ارتباط عضوي بين “إسرائيل” كدولة طرفية في إقليم بلاد الشام، مع الولايات المتحدة كدولة عظمى عالميا.

القانون الثالث: عند وجود دولتين متكافئتي القوة في إقليم واحد، يكون الصراع بينهما حتميا، حتى تهزم إحداهما الأخرى.

إذا كان الصراع التاريخي الطويل بين الشام والعراق يثير تساؤلا عن أسبابه؛ إذ إنه قائم منذ فجر التاريخ، مرورا بالعصور الإسلامية، وحتى اعتناق الدولتين أفكار حزب البعث، فالقانون الثالث هذا يوفر الإجابة عن سر هذا الصراع، وهو أيضا يفسر التنافس الدائم بين تركيا وإيران.

القانون الرابع: حال تراجع نفوذ الدولة المركزية في الإقليم عن بسط سيطرتها على دولة طرفية فيه، فإن الدولة الطرفية تتحول إلى منطقة صراع، أو تدين بالولاء لقوة منافسة في الإقليم الأوسع.

إذا أنعمت النظر في التاريخ العربي، ستجد أن انقسام اليمن إلى شمالي وجنوبي، مثال جيد على فاعلية هذا القانون، وكذلك الحرب الأهلية في لبنان، بعد تراجع النفوذ السوري فيه، وهذا القانون يفسر لماذا تحولت بعض ساحات “الربيع العربي” إلى مناطق صراع، فيما بلغت ساحات أخرى استقرارا نوعيا سريعا.

القانون الخامس: الأيدولوجيا تتبع الجغرافيا السياسية، وليس العكس.

ما يثار عن انتشار المدّ الشيعي بين ما يسمى “الحوثيين” في اليمن، وهم العدليون الزيديون، ومذهبهم تفرع عن المعتزلة، مثال جيد على هذا، فهم من مذهب مخالف بصورة جذرية للشيعة في إيران والعراق، لكن في النهاية الجغرافيا السياسية تتدخل، وكذلك الخلاف بين البعث العراقي والبعث السوري، حتى أن المذهب الشيعي انتشر في بلاد فارس على يد أسرة الصفويين التركية الأصل، جراء الصراع بين تركيا وإيران، وهذا مثال آخر.

مثال متكامل

تجدر الإشارة إلى أن الجغرافيا السياسية هي التي تفسر دعم أوروبا ومن ثم أمريكا للحركة الصهيونية لتأسيس “إسرائيل” على الأرض العربية في فلسطين، ولتقسيم الدول العربية بهذه الصورة، فالوطن العربي يمثل قوة مركزية في الإقليم المتوسطي، يقابلها قوةٌ مركزية أخرى هي أوروبا، وكان هذا سبب دعم اللورد البريطاني هنري فيسكاونت بالمرستون، إنشاء كيان سياسي للعصابات الصهيونية في فلسطين، بعدما تصدى لطموحات محمد علي باشا الكبير، بتوحيد المنطقة العربية في كيان سياسي واحد مستقل عن تركيّا العثمانية، التي حاربتها بريطانيا فيما بعد.

وهذا وثيق الصلة بقناة السويس التي تمثل معبرا بحريا مهما، عمل محمد علي باشا على تأجيل إنشائه رغم أن الفكرة قائمة منذ نهاية القرن الثامن عشر، أيام الحملة النابليونية على مصر، التي شنها الفرنسيون لأن بريطانيا منافستهم كانت تحتكر طريق رأس الرجاء الصالح، فالدول العظمى تحاول أن توسع حيّز نشاطها التجاري والعسكري، وأن تمنع نشوء قوى تنافسها على الحيز الذي اكتسبته.

كما يفسر مبحث الجغرافيا السياسية، تحديدا، قانون راتزل الخامس، كونَ غالبية القادة السياسيين للحركة الصهيونية ملحدين في الأصل، لكنهم صبغوا سياستهم بصبغة دينية، لأن الأيدولوجيا تتبع الجغرافيا السياسية في النهاية.

خاتمة

تتعقد العوامل يوما بعد يوم، ففي يوم قريب لن تكون الجغرافيا السياسية كافية، لتفسير الصراعات كلها، بعد التحول الكبير في بنية الاقتصاد، وبنية الدول، فثمة صراع اليوم بين الشركة والدولة كمراكز قوة ونفوذ، وهنا يتدخل التحول الاقتصادي الذي يجتاح العالم، فقد تلعب الثورة المعلوماتية دورا مكافئا للثورة الصناعية، ويتغير شكل العالم، لكن حتى ذلك الحين، علينا أن نحيط بالعوامل الموضوعية التي شكلت وتشكل واقعنا.

لن يتعافى مجتمعنا سريعا من تفسير الصراعات على أنها تجسيد لمؤامرة سرية، مع أن هذه المؤامرة المفترضة ليست سرية تماما؛ فالجميع يتحدث عنها. التفسيرات المحتجّة بشيء سري هي المهرب المناسب لمن لا يمتلك المعرفة اللازمة لفهم الأحداث من حوله، ويقع على عاتق المتعلمين من كل أمة مسؤوليةُ توعية المجتمع، بالأسباب الموضوعية للظروف التاريخية، لأننا إذا فهمنا أسباب الظروف الحالية الحقيقية، كان ممكنا لنا تهيئة أسباب تغيير هذه الظروف.